لم أكن إلا امرأة
خالد لحمدي
يسألني دائماً عن أشياء لم أدرك كنهها ولا أعي تفاصيلها ، وأظل حائرة
في الإجابة عن أسئلته المبهمة تلك . . حين أتى ذات صباح مباغت فأذابني بانهمارات دفئه فساحت جبالي كثلج
أذابه حرّ الخريف وفيوضه الملتهبة ، فأسرج خيوله بجانبي وامتلكني بدهشة وذكاء .
ألقى تحيته بصوت عذب وترك لي ابتسامة هادئة تتسلل إلى دواخلي وتلتصق بروحي ، فلم أعد أذكر
حينها شيئاً سواه .
جلس على الكرسي الموارب لمكتبي مطأطأ رأسه خجلاً وحياء ، فظللت كل ساعات نهاري أختلس النظرات إليه بخوف
و توجس .
تتجه عيناه نحوي ليحادثني فتسبقه كلماتي لتحادثه بشوق ووله .
أتصنّع الجمل بارتباك لأتحدث معه .
أخاطبه بصوت لا يسمعه أحد فيهمس لي وكأنه يلقي على مسامعي قصيدة شعر
كتبها لي وحدي .
من أي كوكب أتى ؟
أهو من هذا العالم الذي أتيت منه أنا ؟
تمر ساعات ليلي ثقيلة موجعة
وينام البيت حولي وعيناي مسهدة لا تنام !
ساعة الجدار اللعينة بطيئة عقاربها ، تتحرك وروحي تحترق معها في انتظار فجر يأتي
فتنقشع غيومي الكئيبة البائسة .
مع الوقت ، اقتربت منه كثيراً ووضعت له صورة في كل مكان أذهب إليه ،
وحين يزداد بي الشوق أفتح هاتفي الخلوي وأنظر إلى صورته بلهفة عارمة .
تناديني أختي من المطبخ فأضع هاتفي داخل حمالة نهديّ .
قد أسمع صوته بين حين وآخر .
هو لن يتصل إلا نادراً ، وحين يتصل سينطق هاتفي اسمه وسيعلمني أنه هو المتصل الذي انتظرته طويلاً .
يتصل أحياناً في ساعات متأخرة وقد نامت الأعين ليسمع صوتي ، فيداعب
صوته الآسر طبلة أذني بعذوبة وبهاء ، ينفذ
إلى كل روحي ، فأرى الكون حولي مطرزاً بأطياف مدهشة . عطراً . وألواناً . وقمراً
ينشر ضياءه بروعة وبهاء .
مسحت كل الأسماء من ذاكرة هاتفي وأبقيت اسمه وحده .
أنا وهاتفي وروحي العالقة بين السماء والأرض مملوكة له .
أخاطب روحي نادمة ..
لماذا لم أصادفه قبل هذا العمر وفي غير هذا الزمن ؟
لو كان كذلك لتغيرت الأشياء وكان ربيعي مزهراً بالورد وعصافير وكثير
من المطر .
أتيت له ذات لحظة متعبة
باكية وبدون شعور مني لإحساسي بألفة لم أشعر بها إلا معه هو ، فأخذني إلى
عوالمه المليئة بالبهجة والفرح .
هو وحده الذي أفضي له بكل شيء .
نعم بكل شيء .
أمتلك تلابيب روحي فلم أعد أطيق يوماً دون أن أراه .
أستعين به أحياناً في أشيائي التي أرغب في شرائها .
عطري الذي أحب اقتناءه .
حقائب يدي .
أحذيتي .
ألوان ملابسي .
كل ملابسي .
أقول أحياناً لنفسي بجنون
وتطرّف .. لن أدعه لغيري فقد خلقه الله لي وحدي ، وليس لأحد سواي .
وأقول ثانية بوجع وألم .
إن خلفه من ينتظره كل صبح
ومساء .
أليس حقاً لي أن أضع رأسي
وأنام على صدره المليء بالعشب ؟
أن أضع رأسه على صدري وأهدهده ، فهو صغيري الذي لم أمتلكه بعد .
كم أود أن أطبخ له ، أن أمد
له طعامي وأضعه بيدي في فمه العذب .
أن أنظر إليه وهو يسحقني بأسنانه قبل أن يسحق طعامي الذي أطعمه له .
أن ألتصق به ونغدو روحاً
واحدة تطير نحو السماء .
أأظل مهبولة وأتعاطى مع
الأشياء ببساطة وسذاجة ؟
إني أشعر به يقترب مني كثيراً وأنا المهبولة أبتعد عنه بحماقة
غير مدركة أي شيء .
هو له أساليبه المحببة التي
يختلقها للقائي ومحادثتي .
فلذلك يقتلني كل يوم ويتزايد شعوري نحوه بعدم قدرتي في الابتعاد عنه
والفكاك منه .
لذلك عاهدت نفسي أن لا أتركه وحيداً .
فلأكن جارية داخل قصره الشائك المستحب .
معه وحده أشعر بأني امرأة مكتملة .
لم أعد أحتمل وجعي وإرثي الجاثم على صدري منذ عمر من الوقت .
فلأدع له كل شيء ، ولأدخل بهدوء إلى ديره وصومعته .
إني أراه يدعوني بصوت هامس .
إني أشتم عطره الصباحي قادماً نحوي
بعنف باذخ .
فلأسبقه وأضع حقائبي قبل أن يأتي فلا يجدني في انتظاره ، فروحي هاتفة
بلهفة ونشوة :
هيئت لك .
فلأهدم معبده قبل أن يذهب بعيداً .
......
من مجموعتي القصصية ( أشياء
صغيرة )
.