صوت الجرح وتداعيات الوداع
........
                                                                                                                
خالد لحمدي
  



حين تحين اللحظة يدور الكون بنا وتتمنى الروح أن تموت بهدوء قبل أن تلحظ موت حلمها ووداعه الأخير ..
تقف بصمت على رصيف الشوق لتستعيد ما تبقّى من ذاتها المتشظية وقد أضاعت الحروف والأبجديات وأنصهرت اللغات  في حناجر تختنق بجمرات الحنين  وألسنة الوداع المنسكبة  قبل لحظات الدموع والبكاء ..
يمتد جسر الغروب وليل الوحشة محتلاً غرف القلب ومنافذ الأوردة فيقتل ملايين من كرات الدم المتخثر  بأسئلة خرساء  تتساقط من الأعين بحرقة وألم  .
ويظل صوت الرحيل ينقر نوافذ أرواحنا فنتجمّل بالصبر حتى لانشعر من نحبه  بوجعنا ودواخلنا المحترقة  .
نحادثه وأعيننا ذاهبة في أتجاهات وأمكنة أخرى ..
وبهمس نخاطب ذاتنا ..
لاتذهب 00!  بدونك حياتنا قاتمة وكثيرة العتمة .
لايخفف وجعنا سواء  الإمساك والتشبث بمن نحب ونعشق ولاندعه يرحل ويذهب بعيداً ..
وثمة قلوب جائعة لأرواح تموت في عشقها ومن الإستحالة أن تدعها تغادرها ولو ثوان  قليلة ،  أدمنت رؤياها ويستحيل أن ترى في أرضها أصوات ووجوه تطئ أقدامها أرض أعتادت أن لاترى فيها سواء غرسها وسنابلها الراعشة بالبهجة والألق  .
وكم صوّر الأبداع أوجاع الروح وأشتعالات الشوق فأطفئ بعضها وأشعل بعضها الآخر تحت رماد الوداع وجمرات الإنتظار ..
وقد أدهشنا وأبكانا صوت لايستكين لحظة ، فيفاجئنا بعذابات حضوره وشظايا ألقه المتطاير فينا بروعة ودهشة .. نمسك به فيأخذنا إلى سماوات  وضفاف  وأمكنة  نائية ،  يرينا ألوان  وأطياف  ووجوه  وعيون  وقلوب متيّمة  لاترغب الروح  في أن  توادعها  وتتركها وحيدة  .
حين غنىّ  بعشق وبصوت جرحٍ باكٍ ..
ذلك الصوت المليء بوجع العشاق  ومدامعهم المتساقطة ، مخلّفة حمرة على وجوههم  لايمحوها الوقت والزمن  ..
الرائع الكبير عبدالكريم عبدالقادر ..
 صوت نادر  كالأشياء التي نبحث عنها ولانجدها أبداً .
قلب واله وصوت شجي أنشد أروع لحن وأعذب كلمات تنم عن حس مرهف  يلتقط أجمل الكلام وأروع الألحان المدهشة والمثيرة .
حين غنّى ( وداعيه ) التي تبكي كلماتها لحظات الوداع وشتاءاته الباردة ..
حين كتب الشاعر متحسراً لوداع من أحبه ، وأن ماتبقى له سواء لحظات ليلة أخيرة بائسة الملامح كئيبة الصور ،  وستغادره روحه وأجمل أشياءه وأقربها إلى قلبه ،  ممنياً نفسه بعودتها ولو في ليلة أخيرة أخرى .
وكيف ينسى أجمل عمر سيذهب عنه ويتركه وحيداً يتوه ويموت بعده ولايعي بعد ذلك شيئاً  ..؟
وداعيه ..  ياآخـر ليلـه تجمعنا 
وداعيه ..  أعـز الناس يودعنا 
ليله وياعساك أتعود
ليله
عسى الله يصبر الموعود
ليله
أنا بَعدك عمر مفقود
والدنيا بلامعنى
بلامعنى
..
لحظــه يابقايا اللـــيل لحظــه
لحظه مابقى في الحيل لحظه
بالهـدى يالـيل
مابقى بي حيل
حسيت أني بنحـرم شوفــي
مقدر أودع قطعه من جوفي
ليله وياعساك أتعود
ليله
عسى الله يصبر الموعود
 ليله
أنا بعدك عمـر مفقود
والدنيا بلامعنى
بلامعنى
..
تلك لحظات لاتحتملها الأنفس العاشقة .
تدرك قسوتها وفجائعها المؤلمة  .
تترك ندوب في القلب وصور قاتمة في الذاكرة التي قد تنسى بعض الأشياء إلا وداع الغال على الروح ، المتعلقة به والذائبه في عشقه وهواه  .
قال الوداع قال قال الوداع
لحظة وداع قال
هلت الدمعه وسال الكحل فوق السواطر
كل دمعه من عيونه أشتريها بألف خاطر
آه إنت غربه ونا في دروبك محطه
آه  أه ياحظّي ماوصـل جنبي وخطّى
قال الوداع قال
قال الوداع 
عاشقان في ليل من الغربة ودرب سفر طويل  يقف الغياب في كل مداخله ومنافذه فيغلق الممرات ويترك القلوب تبكي الندم وتمضي وحيدة معلنة يتمها ونهاياتها الغبارية المعتمة .
وقد أعتاد الصوت الجريح على غناء  هذا اللون الحزائني وتميز به صوته ،  ولخصائص صوتيه لم تكن موجودة في غيره من الأصوات الأخرى ..
رافقه خلال مسيرته الطويلة كثير من الملحنين ،  وأثمرت تجربته الناجحة مع الدكتور عبداللرب  إدريس نتاج رائع لن يمحى أويموت من ذاكرة الأجيال المتلاحقة .
ففي أغنية ( جمر الوداع ) ذات المقدمة الموسيقية الموجعة والملتهبة ، المتجانسة مع صوت ألة الأورج .. يليها موالٌ  يأخذ الروح إلى العمق لتصغي بسكون وصمت لتأوهات ونبرات منبعثة من صوت يتسلل إلى القلب بوجع وحرقة ..
جتني تودعني بصـمت وسكوت
ياوقت لاتمشي بسرعــه وتفــوت
إيدي بجت في إيدها نار وجمر
وإن اسكنت في عينها قالت صبر
وأنا من الفرقة أحيا وموت
..
إهيا ونا مابين صمت وانتظـار
إهيا ونا وكيف نبدي بالحوار
حبيبتي وش حالها قبل الرحيل
أشوف أنا بعيونها دمعه وراء دمعه تسيل
كلمتها 00 طمنتها .. وعدتها أبقى لها
راحت راحت قبل ماأنهي الكلام
راحت تخنقها عبره فـي الزحــام
ونا من الفرقة أحيا وموت
   إن للحظات الوداع وجع شديد ينخر الروح والقلب ، وحين ترى من تحب يغادرك وأنت وأقفاً أمامه لاتستطيع أن تعمل شيئاً .. تبكي دواخلك قبل عينيك .. ويطبق السكون  ويخيم الصمت حولك فلاتستطيع لسانك أن تنطق بشيء ،  فتتمنى من كل قلبك أن تطول اللحظة وأن  يقف الزمن  قليلاً وأن لايذهب مسرعاً ،  تلك لحظة موت للذات العاشقة الوالهة . 
وقد تميز الصوت الجريح بأداء أغنيات الوداع والبعاد والفرقة والغربة المؤلمة بصدق وبتأثر  إلى حد الوجع والبكاء ..
يذوب في اللحن والكلمات التي يتعاطى معها بعناية ودقة ،  وكم فصّل أدريس كثيرٌ من الروائع الملائمة لهذا الصوت النادر .
ففي أغنية ( غريب ) التي كانت بداية التعاون بينهم والتي أشتهرت كثيراً لتوجعات كلماتها وجروحها النازفة وقطرات الحزن المتساقطة من كل حرف حملته هذه القصيدة المدهشة  ..
فغنّى متوسلاً وراجياً ليسمع من حبيبه كلمة واحدة .. أحبك .. لتعيد له الحياة ثانية ..
غريب شايل جروحـي والحكـي وياي
غريب داير وروحـي  هدهـــا ممشاي
أمشـي وقلبي حــزن أمشــي
أشكي وطربكم إبكاي
..
بدت غربتي خطـوه مع الي إنقـال
مشـت دنيتي طـوّل طريقي وطال
قلـت الليالــي
كلّمت حالي
أوّل حبـيبٍ أحـبه
علّمني معنى المحبه
إشلون أخلّيه وأمشي بدنياي غريب
أدري بحاتـيه غالـي بعيني وحبيب
أمشـي وقلبي حــزن أمشــي
أشكي وطربكم إبكاي
..
أدري فـي قلبك كــلام ودّك تقولـه
أدري فيك وأنا معاك تشتاق وتوله
أدري فيك أدري ..
لا ما يكفي إنّي أدري
ودّي أسمع كلمة منك
كلمة فيها نور عمري
أنا أحبك
قول قول  .. خل تطــير الـدنيا فينـي
قول قول  .. خل ليالي الشوق تجيني
يالّلي كلمة واحدة منك
ترسم الدنيا بعيوني
غريب غريب
لقد صور إدريس خلال هذا اللحن معاني الغربة تصويراً مذهلاً بآلامها وفجائعها ومرارتها القاسية ،  وبتنقلات الصوت الجريح بين عُرب  ومقامات اللحن خلق حالة
من الذهول والدهشة لتتابع الأذن الجمل اللحنية بإصغاء وإمعان .. وأتقن صناعة  التحاور بين آلتي القانون والناي لتصوير حالة الغربة ومتاهات ذلك الدرب الطويل الشائك .
أتمنى أن نسمع مستقبلاً  شيء مثل هذه الروائع التي أطربنا بها الرائعان عبدالكريم عبدالقادر ود. عبداللرب إدريس وهم الأقدر على العطاء وخلق الجديد العذب في دنيانا المليئة بكثير من الوجع والشقاء ، وكثير من الإغتراب والحب .. وكم تهفو قلوبٌ وأفئدةٌ لمعانقة مثل هذه الروائع بولهٍ واعجاب شديد .






المشاركات الشائعة من هذه المدونة