ستروميريا
منذُّ أيام قلائل وأنا أشعر بانقباضة مفاجئة لم أعهدها، وصرت لا أنام إلاّ قليلاً ، وأشعر بروح ريتا تحوم حولي وتطاردني ، تقف على مضايق الطرقات التي أمرُّ خلالها، تنتصب أمامي في كل وجهة أذهب إليها ، تدعوني وتؤشر نحوي بيدها، وما إن أقترب نحوها تختفي مثل سراب .
ريتا العذبة الشهيّة لم تغادرني ولاتزال تسكن أعماق روحي ولم أتخلّص منها البتة ، لاتزال مثلما عرفتها أول مرّة ، ولم يتغيّر فيها شيءٌ .
متوسطة القامة، بيضاء البشرة ، ناحلة قليلاً ، لها نظرة عذبة وآسرة ، وعينان حارتان ومثيرتان ، وشفتان طريّتان ، تعض أوقاتاً بأسنانها ذات البياض الناصع على شفتها السفلى .
لاتُغطّي يديها وتظهر أطراف أصبعيها النحيلين البيضاوين اللذين يظهر دائماً على أطرافهما المناكير ذو الحمرة الداكنة .
حديثها لايُمل أبداً ، ووجهها لاتكشفه إلاّ أثناء عملها ودوامها الرسمي ، وتُغطّيه بخمارٍ أسود حين تنوي مغادرة المستشفى إلى الخارج .
لها نهدان صغيران نافران يكادان يتحدّيان عباءتها السوداء ، وينتصبان أكثر حينما ترتدي البالطو الأبيض الخاص بالأطبّاء والمُمرّضين .
تلبس حذاءً أسودَ ، وينكشف مافوق قدميها من بياض ، وعلى ساقيها ينبت شعرٌ خفيف مائل إلى الإصفرار . لم تبلغ من العمر الثلاثين بعد ، وتسكن مع أهلها في منطقة المرقّده الواقعة شمال مدينة القطن .
أو هلوسات روح نالها القلق والتعب أم تصدّعات المرحلة ونتائج افرازاتها الخاطئة قد ألقت بظلالها على الروح والذاكرة ، أم تشظّيات العمر وانزيحات الزمن البائس المهترئ.؟
ومابين أطياف وتهاويم ريتا التي لم تكف عن مطاردتي ، ظلّت إلزا تلاحقني بإتصالاتها شبه اليومية ، ما جعل أمي تقول لي أكثر من مرّة :
- إذا أردتها تقدّم لخطبتها أو دعها تَعِش حياتها كما تشاء .
وكانت أمي محقّة فيما ذهبت إليه ، بينما ظلّ قلبي يرتجف شغفاً وتخوّفاً ، ولم أعد أدري بمناح خطوي ودروبي ، وقد قُلت لها في آخر اتصال بيننا .
أولا تدركين معنى أن يعيش قلب سنين من الجفاف والجدب في انتظار المطر، وما إن تتشكّل في الأفق سحب الوصل حتّى يتشظّى ويبتئس توجُّعاً .؟
قالت لي توّاً بتساؤل ولهفة :
- أو أنتَ لي وحدك أم .. ..؟
- أم ماذا .؟
- إلزا .
- نعم .
كيف تسألين سؤالاً كهذا ، أولم أؤكد لك مرّاتٍ عديدة بأنني لست منشغلاً عنكِ وإن أخذني العمل وأبعدني كثيراً ، لكن لم يتغيّر بداخلي شيء ، بل رُبّما تزايد شغفي وحنيني إليك .
وأضفت جازماً :
فلتعلمي أن من ينتمي لهذه الأرض ، محال أن ينسى أو يتنكّر أو يخون ، ومن شب على الحُب حتماً سيموت عليه .
أنا القلب المُفخّخ بالشوق ، المُبلّل بالأماني والاشتهاءات المستحيلة.
أنا الجرح الذي يُبذّر ثروة أشتياقه وحُلمه ويضع مواثيق تقي العُشّاق التعثّر والانزلاقات المفاجئة .
لذلك دعي عنكِ توجّسك وقلقك ، ودعي ريتا وسخافاتها المستفزّة ، ولا تظهري على ملامحك غضباً أو توتراً .
هي تود أن تشعلك غيرةً ، وتشعُركِ أنني غير مبالٍ بكِ .
لقد أخبرتك عنها منذ الوهلة الأولى لعودتك من الإتحاد السوفييتي ، واقتنعتِ بما قُلت لكِ ، كيف الآن بدأت التوتّرات تزداد بداخلك .؟
رغم ذلك أُطمئنكِ أنّه لن يحدث شيء يُغضبك ، وسأخبرها بعدم ارتكاب أشياء كهذه مرّة أخرى .
منذ أيام وأنا أسعى للوصول إليكِ ، بعد أن وعدتني بلقائي في آخر مرّة كنّا معاً داخل أروقة مكتبة ١٤ اكتوبر ، أو تذكرين ، أم نسيتِ كلماتك لي يومها :
- لن نتوقّف عمّا بدأناه وحلمنا به .
كان يوماً هادئاً وجميلاً ، خالياً من الشك والتخوّف وانتكاسات الروح الخائفة .
فكّرت طويلاً وأنا أبحث عن رقم هاتف بيتكم ، ورفعت سمّاعة الهاتف مرّات عدّةً وأدخلت رقمك في الهاتف ثم أعود وأطبق السماعة بكثير من الخوف والتردّد ، ولا أدري حتى اللحظة كيف تغلّبتُ على حيائي وتردُّدي .
ليس الأمور كما تظنّين ، أو كما تهيأت لكِ ، فثمّة أشياء قد لا تخطر ببالك ، بل رُبّما لا تتخيلين أن تحدث أو تصادفك يوماً .
لقد جفَّ حلقي ولساني ، وأوشكت جسور روحي على الانهيار والسقوط ، ولا هناك وقت للتداعي والانحدار ، فقد تبدّلت حولنا كثير من الأشياء ، وتفتّقت المرحلة عن أمور تسير لصالحنا ، فلنغتنم ذلك ولانعي التأرجحات وعبء الحاضر المنزلق أي نظرة أو اهتمام .
دعي الأمس وراءنا ، وانظري لمرآة العمر، ستخبرك عمّا يجب فعله بعد عصرٍ من الجدب والذبول .
ما أسعدني .
انسياغ ضحكاتك تصلني وتهيّئُني لخوض المعركة بثقة وجدارة .
تُرى من سيبدأ الهجوم ، كي نحدّد مواقع الدفاعات لصد الغزوات والارتجاعات المفاجئة .؟
فلتعذريني عزيزتي ، ذلك أن قلبي هو الذي يقودني إليكِ ، لذلك رُبّما أخفق في بعض الأشياء ، أنا الذي لم أعرف حُبّاً سواكِ .
فلتجيبي إذن .
لِمَ هذا الصمت السحيق .؟ فليكفني حرائقَ واشتعالاً ، ولتكفُّي عنّي انهمارات صمتك ، كي لا تتوشح أرواحنا بالفتور والعطب ، ولكي لا نُصاب بلوثة التراجع والانهزام .
فلتجيبي قبل أن أطبق سماعة الهاتف ، حينها ستبحثين عنّي ولن تجديني ، وقد أغادر القطن ولرُبّما لا أعود إليها ، وسيجيئك خبر موتي بغتةً فتعيشي العُمر في كمدٍ وتحسّرٍ شديدين .
- ماجعلكَ تقول هذا .؟
- أخيراً جاء صوتك .
- أُحلّفكَ أن تخبرني الحقيقة .
- ههههههه
- هكذا أنتن معشر النساء .
حين يخبركن أحد بالصدق تتغافلن ولا تعرنه اهتماماً، وحين يحيد عن الواقع و الحقيقة ، ترتفع أصواتكن وتنصتن لكل مايقول.
- كااااه .
- سامي ، أكنت تضحك علي .؟
- نعم .
- كي أجعلك تغادرين صمتك المُمل .
- خوّفتني كثيراً .
- هههههه .
أعرف قلبك ومايجيش بداخله ، ولكن لا أعلم بما أصابكِ بعد لقائنا آخر مرّة .
- سأخبرك ، ولكن ثق جيداً أن ليس لي فيما سأقوله أي يدٍ أو قرار .
- تكلّمي أنا اسمعك .
- كل الحافة تتحدّث عن قصتنا وبلغ ذلك مسامع عائلتي .
- أهاااا.
تعلمين جيداً أنني أعشقك ، ولكن قانون البلد لا يسمح للرجل بالزواج بأكثر من إمرأة .
- أو هل لديك زوجة ولم أعرف بذلك .؟
- ليس هكذا ، ولكن ريتا تقف على الضفّة الأخرى تنتظر .
- ماالعمل إذاً .؟
- سأضع لذلك حلّاً .
- ومن وضع هذا القانون .؟
- الحكومة هي من وضعته ، حفاظاً على كرامة المرأة وحقوقها . ولكن ، ستتغيّر الأمور في الأيام القادمة .
- ساااامي .
- اللللله ، أريد أن أسمعها مرّة أخرى .
- سمونتيييي .
- أشعر براحة الآن .
- أعلم ذلك .
- هذه القُبلة لك .
- وصلت .
- أيوووه .
- صوتك يتلاشئ وينسحب :
- أمي تناديني .
- سنلتقي في وقت آخر .
وأغلقت الهاتف وفي داخلي لهفة لإمرأةٍ هاربة ، ماجعلني أهجس بولهٍ وتمنٍّ :
ومض التذكّر مؤلم للقلب كثيراً ، إذ لم أنسَ أيامنا قبل سفرك للدراسة ولم أنسَ أيضاً كيف قضيت خمس سنين في انتظارك . أنتِ لا تعين ذلك بينما لاتزال روحي تذكر كل شيء .
أودُّ أن أصرخ بملء فمي وأعود خائفاً من أن تنعتني أمي وسوسن وزميلتها صفيّة المحورق بالهبل والجنون .
لا أملك سوى الصبر والتأمل ، ذلك أن الإنسان وحده من يصنع حياته ، ووحده يدرك مايفعل ومايريد ، ويعلم كيف يتقدّم ومتى يبقى منزوياً ووحيداً .
فلتدعني أيها الوقت أُفتّش عن حُلمي وملاذي والإمساك ببعض أطيافي الهاربة ، فلم يعد هناك متسع للجدل وضغائن المقت والافتراء .
المناحي والسُبل واحدة ، أما الأهداف قد تنحو إلى مسالك ودروب أخرى متعـدّدة ، ويجب على البلد ، بعد هذه التجربة التي عاشها أن يمسك بدروب النصر وألاّ ينتكس أبداً .
لقد تبدّى جليّاً مزاجية العقل حين يشحذ مديّة الموت ، ويسقط المنطق مضرّجاً بالتبلّد دون نقاش أو رؤية صائبة .
تختلط حينها الحقائق بشعارات الثورة ، التي تلتهم رجالها بنهم دون تردّدٍ أو تخوّفٍ ومواربة .
يرتفع حينها صوت المأساة عالياً :
- لا تصالح بعد اليوم وليعش الحاضر كيفما يريد .
الأرض تطعن دواخلي وتزيدني جرحاً ومقتاً ، وبين حاضري وانزياغات غدي، أظل منغمساً في حيرتي وتساؤلاتي العاتبة .
- كيف لجسور المجد أن تسقط بغتةً ، أهو الخطاب التقدّمي أم هشاشة الثورة الوليدة .؟
لقد خَفَتَ النور ولجم عن الكلام، ولم تعد ثمّة دروب تنهض بخطى المعنى ومسارات الفجيعة القاتلة ، وأصبح العُشّاق قتلى ومفقودين ، وحُرِقت جميع الأدلّة والخرائط التي قد ترشدنا وتوصلنا إليهم ، ماجعلني أصرخ حُزناً وتحسُّرا ولا مجيب سوى جدران غرفتي العابسة .
أطل من نافذتي على الخلا المتّسع فتدعوني أمي بصوت مضطرب ، فذهبت نحوها فوجدتها ممسكة بسماعة الهاتف قائلة بصوت منسحب :
- رد على من يتصل بك .
وأردفت بامتعاض :
- أُخرج عن سجنك المُمل .
وحدث مالم أكن أتوقع أن يحدث يوماً ، إذ أخبرتني الدكتورة إلزا بأن ثمّة خبر مفاده أن الدكتورة ريتا قد غادرت القطن رفقة والدها وأمها ، ولم أُصدّق ما سمعت ، فقلت بحيرة وتوجّس:
- كيف حدث هذا .؟
قالت إلزا باسهاب ووضوح :
- لقد سمعت أنّه قام بتهريبها واسرتها أحد البدو ليلاً عبر الهضبة الشمالية حتّى أوصلهم تخوم صنعاء .
- ولِمَ حدث ذلك .
- قيل أنّها خافت على أبيها من الملاحقة والمساءلة .
وأردفت بتساؤل ممض :
- أو لم تعلم باختفاء وملاحقة الكثيرين من رجال البلد ، ممن ينتسبون للمرحلة السابقة .؟
وأضافت ببرودٍ وتصنّع :
- ماذا ستصنع الآن .؟
- في ماذا .؟
- في ماكان ولا زال بيننا .
قُلت للتو :
- نحنُ مكبَّلون بقيود لم نتحرّر منها بعد .
وأردفت بجد :
- ولا نزال نجرُّ خلفنا سلالات القهر والتبلّد ، ولا أدري هل نقايض بقيمّنا ، أم نظل ممسكين بعجزنا وقداسة الكبت والإحتواء .؟
بل نحنُ مهددون بالإنقراض والتلاشي وقد يصعب تحرّرنا وانبعاثنا ثانية ، ولن نعود كزمن مضى ، وسيبقى المستقبل ملفَّعاً بالنقص والهزائم المتلاحقة ، وقد يعجّل ذلك بسقوطنا ونلقى حـتفـنا ، ومؤكد ثمّة من ينتظرنا كي نذهب إليه .
ماذا حدث ويحدث .؟
لم أعد اللحظة أدرك أو أعي شيئاً ، أكنتُ في بيتي وبين جدران غرفتي ، أم في مكان آخر لا أعرفه ، شيء واحد فقط لم يغب عن ناظري ، هو رؤيتي لإلزا التي لم تتركني وحيداً ، وظلّت تناولني العقاقير والأدوية ، وقد تبدّت أكثر اشراقاً وجمالاً ولم أعد أرها ترتدي البالطو الأبيض وقد كشفت عن شعرها الكثيف وظلّت جالسة إلى جواري ، وإن بدت الأشياء تتراءى أمامي بضبابية وعتمة كالحة .
ستروميريا
رواية
خالد لحمدي