شاف لطفي معه .. أسئلة الشوق والأمنيات الهاربة
يمضّي الشوق أوقاته باحثًا عن متكأ أو ضفاف يلج إليها ويسكنها ، ويظل القلب عطشان للدفء ساعيًا إلى نزع الأغطية عن الدروب الموصدة ، وفي مكان لايعلمه سواه ترتكن الروح وتستقر .
هو وحده الذي يجزم بصواب خطوه ووجهته ، ووحده من يدرك المسالك وحقيقة الأشياء.
وتظل اللحظة من تفسر المعنى وترسم تضاريس العمر وماسوف يؤول إليه .
كيف إذًا سيحسن القلب النفاذ نحو حلمه وسينقاد نحوه برغبة مشتعلة بالوله والأمنيات الهاربة ، بل كيف سيهتدي إليه دون قلق أو تعب . ؟ أوسيقرأ لاءات شعره أو سيكشف مايبطن ليتبدئ النور بوضوح وانجلاء . أو سيسمح الآخر ويرتضي بذلك . ؟
ويظل السؤال موشّى بالحمرة وإرتطامات التقلّب والحياء . ويبقى القلب متقبلًا بالظفر أو الهزيمة التي ربما لاتغير من اللحظة شيئًا . هكذا هي مآلات الحب ومصادفاته الآسرة التي يسعى خلالها العاشق لالتحام روحين وتوحدهما إلى الأبد .
قد لاتتجلى الحقائق وتظل مبهمة لا نعلم عنها شيئًا وقد تجيئنا بغتة وتنكشف أمامنا ، حين يعترف العاشق ويفصح عما يعتمل في أعماق روحه ويشتعل في دواخله . هنا نقف بإمعان وإصغاء ، نسمع صوت اللوعة وانهمارات الشجن المنغمرة بالصدق والنقاء .
حين أوضح ذلك الشاعر والملحن عبدالقادر الكاف من خلال إحدى قصائده الجميلة التي تغنى بها الفنان الرائع عبدالرحمن الحداد ، الذي قال في مطلعها :
شاف لطفي معه والكلام الزين شافنا واضعه في ســــواد العين
تكبَّر واستغل طيبتي وأفشى السر في غيبتي
كأنه ماعرفنا زين
هنا تتجلى الحقيقة دون تخفٍّ أو مواربة ، أن يعترف بهالة الود واللطف التي منحها حبيبه ، والذي جعله أيضًا ولشدة حبه وتعلقه به أن يسكنه عينيه اللتين لم يسكنهما سواه , ما قد جعل ذلك الحبيب يصد ويمتلئ غرورًا وتكبرًا ، ويفشي أسرار الحب التي تحدثا بها معًا ذات يوم . لم يرتكب الحبيب ذنبًا كهذا ، وماعساه أن يجني من فعلته تلك .؟ أوهل يسكن قلبه حُبٌّ آخر ، أم هو تخوف وتردد أم تمنع وكبرياء , رغم تأكيد الشاعر وإيضاحه بأن ثمة رابط يجمعهما ، وهو الحب الذي تنكَّر له ذلك الحبيب ولم يعره اهتمامًا .؟
الاعتراف بالحب سمة العشاق الصادقين ، ولاضير من إفشاء مشاعر القلب الغارق في بحار الشغف ومتاهات الإلتياع ,ليس ضعفًا أن يبوح بمشاعره ولكن للتخفف مما تضج به روحه من تشظيات وآلام ، من سهر وحيرة وتساؤلات قاسية مربكة .
لقد امتلأ قلب الشاعر بالندم والتحسر وذهب به استياؤه أن يؤنب روحه عن هالة الأحاسيس ودفق المشاعر التي ظل يمنحها لحبيبه المكابر ، ساعيًا للاحتفاظ والتمسك به رغم غيه وعدم اهتمامه .
حيث قال بأسى وتوجع :
أستاهل اليوم هجره يومنا يا ناس وطيت له راسي
وحكيت له كل شي عني وعن حبي نحوه وإحساسي
وكل ما جيت وشرحت له
أحاسيسي وأشواقي له
يزيد في الجفاء يومين
يسقيني المر من كأسه وأنا أسقيه من كأسي الحالي
وأسأل على حالته وهو ولا مرَّه سأل على حالي
أنا أحسبه يشتاق لي
ومثلي في الهوى مبتلي
ولا أدري إن له وجهين
حاولت أنساه وأتباعد عسى النسيان ذا يطفي أشواقي
وغبت عنه ولكن الهوى مازال في القلب له باقي
رجعت أبحث أدور عليه
وأحمل كل شوقي إليه
أحبه زين والا شين
بعد كل هذا التشطي والانغلاق تتداعى تساؤلات الحيرة والقلق :
- أو هل يستطيع قلب الشاعر التخلي عن هذا الحب ، وقد تبدّت شمس الحقيقة حاملة نهايات كابية.؟ حتما سيحاول أن يشيح بوجهه عن رؤية النهاية التي لم يرغبها أو يتوقع مصادفتها .!
أو هل انتهى الأمر وذهب كل شيء نحو وجهة غير مؤملة وخطى غير صائبة .؟
أوهل الحب شعلة تضيء الروح ثم تخبو فجأة وتنطفئ ، أم مشاعر تغفو قليلًا ثم تستيقط ثانية.؟ أم ثمة قيود تكبله لا يستطيع كسرها والتحرر منها .؟
محال يحدث ذلك ، إلاّ حينما يفقد العُشّاق أبجدية العشق وتنزلق من تحت أقدامهم منابت الوله والأماني وتغادر عصافير اللوعة أعشاشها دون أعين أو أجنحة .
أو يحدث أن يتنكّر الورد للماء ، وتخرس الألسن وتصمت عن ما قيل وما ترغب في أن يقال.؟
رغم النهاية الصادمة ظل الشاعر ممسكًا بقوارب صبره وولهه ، مجدِّفًا نحو ضفاف يبتغيها ويتأملها ، وإن تلفع بالنسيان والتمظهر باللامبالاة التي لا يجيدها ولم يعتدها وقد عاد بقلب ناضح بالحب والأحاسيس الملأى بالشغف والرجاء ، معلنًا عدم قدرته عن التخلي عن حبه ووأد مشاعره الملتهبة .
لقد أبدع وأجاد الفنان الكبير عبدالرحمن الحداد في غناء هذه الأغنية بصدق وإحساس عميقين ، لما يملك من صوت غاية في العذوبة ، وأحاسيس وخصائص فنية تميّز بها وحده ، وهو الآتي من عصر فني لايعرف الهرم ولايشيخ . وتتجلّى الأناقة في إتيان اللحن على مقام( السوزناك ) والذي يحمل جنسين منفصلين الأدنى راست والأعلى حجاز ، وعلامتي تحويل مي كاربيمول ولا بيمول , ولما يحمل هذا المقام من دفء وسحر جاء اللحن محروسًا بالجمال ، موشًّى بالنور والألق الآسرين .
رحم الله الشاعر والملحن عبدالقادر الكاف وأمد في عمر الحبيب الفنان عبدالرحمن الحداد فهما اللذان أنارا أرواحنا بقناديل البهجة وأجمل الأغنيات والأعمال الخالدة .
خالد لحمدي