بليغ حمدي ودموع الوردة
...
خالد لحمدي
صحيفة المسيلة العدد ( 830 )
الأربعاء 2 ابريل 2014م
.....
للوداع وجع وعذابات مريرة ، للشوق دمع يشعل جذوة الحب حرائقا
ولهبا ، وللبعد حنين يأخذ الروح نحو مصاف تضج بالوحشة والرغبة للقاء .. سهر وغفوات
وقِذاً يحرق الأعين الملأى بالسهد والسهر .. لوعة تجعل الروح تتلظّى على جمر الشغف
وحرائق الانتظار .. كيف لا .. والروح لاتستطع رؤية من تعشق وتحب أو الإمساك به دقائق
بل ثوان معدودات ، وحين ذهب ظلّت ملامحه
ورائحته تُحاصر القلب والذاكرة بوحشة واشتهاء .. كيف تصنع الروح حينها ، تظل تراوح
مكانها ، تتوجع ، تحترق ، تترقّب طيف من تَحبّه ، قد يعود بعد سفر وغياب ، ترى
الأشياء حقيقية بينما يحاصرها الوهم والسراب
.. وتبقى الروح العاشقة تسعى بصبر لتُحيط من تحبّه بفيوض من الوله وغيوث من الخوف
والحنين ، لاترغب أن يقترب نحوه أحد ، تعيش وبداخلها براكين من الغيرة والإحتراس ،
لتحتفظ بروح ترى فيها ذاتها ، وأشياء لاتشعر بها سوى الروح
التائهة في بحر الغرام .. كيف إذن .. تستطيع هذه الروح وداع من تحب ، هيّنٌ أن
تعانق الموت ولاترى من تعشقه يذهب بعيداً .. تَغنّى كثير من الشعراء والفنانين بالوداع وقسوته وألمه للقلوب العاشقة .. وقد أذهلني
كثيرا الموسيقار الراحل بليغ حمدي حين كتب ولحّن
أغنيته المشهورة ( باودّعك ) التي تغنّت بها
الراحلة وردة الجزائرية .. ففي المُقدمة الموسيقية
تشعر وللوهلة الأولى بشيء أشبه بخطوات امرأة تخطو نحو أفق بعيد ودروب تملؤها الخوف
والعتمة .. وتذهب بِكَ الجُملة الموسيقية التي تلي الأولى نحو شيء أشبه بالارتطام أو التصادم ، فيسري الخوف والرعب في دواخلك .. وتظل في
حالة من الحذر والترقّب ، ثم تشعر بالتدريج بشيء أشبه بنسائم الفجر الباردة تهب
حولك فتملؤك بالطمأنينة والأمان ... يصحب ذلك تصاعد صوت أشبه بالأمواج الهاربة
التي تُعانق بعضها بعضا برغبة ومتعة ، وتتناغم الريح والموج ويذهب القلق والاضطراب
وئيدا وئيدا فيأتيك صوت مليء بالوجع والألم ، مشحونا بالعبرات المختنقة في حنجرة
تكاد تنفجر بالدموع والبكاء دون أن تستطيع إن تُخرج ذلك ، وكأن شيئا يُمسك بصوتها
فتُحاول أن تنطق ، فتأتي الكلمات ملأى باليأس والخيبة والإنكسار .. ( باودّعك وباودّع الدنيا معك ) .. ياالله .. أي
وداع يجعل العاشق أن يُخاطب حبيبه بعبارات
كهذه ..؟ فيُخبره بوداعه الدنيا بعد أن
يتركه ويبعد عنه ويغيب عن عينيه ( ... جرحتني قتلتني جرحتني وغفرت لك قسوتك .. باودعك من غير سلام
ولاملام .. ولاكلمه منّي تجرحك .. أنا أجرحك ..؟ بسم الآلام ارحل أوام حُبي الكبير
حيحرسك في سكتك ، الله معك ) .. لقد بدأت مرحلة أشبه بموت الحب وتلاشيه
وانحداره الى نهايات غير متوقعة ، بعد بلوغه الذروة والإرتقاء ، حين ظهرت وقائع
الخيبة ، وطفت الجروح القاتلة .. وبقدر شحنة الرغبة والمشاعر الملتهبة ، حين أوشكت
الروح العاشقة أن تُودّع من تحب وتهوى ، تنبثق لحظة مغايرة تختزل فيها المسافة الفاصلة للحظة الوداع وترك الدنيا
وشقائها بعد جرح .. ولحظة أن تشعر الروح الوالهة بالقتل ، ورغم ذلك تغفر وتسامح
وتقف دون أن تنبس بكلمة أومفردة جارحة وتدعوا بأن يتم الرحيل دون أي وجع وألم ، فسوف يحرس الحب الروح في رحلة السفر والغياب . ( جرحتني .. قتلتني .. وغفرت لك قسوتك ) .. لماذا الجريمة دائما تترصد العُشاق والأرواح الملأى بالصبابة والهيام ..؟ وهل ثمة حب انتهى نهايات سعيدة ..؟ مُرّهَقة هي
الروح العاشقة بالسهد والأرق والقلق ، متلاشية حد الانهيار ، وموجع للقلب البعُد
والقُرب أيضاً ، فقد يصحبه الشعور بالفقدان والجنون والخيبات المتلاحقة .. ومن
الوهلة الأولى يُولد الحب كما هو لا كما يرغب العُشاق كيف يصير أو يكون ، وترتسم
ملامحه في وجه العاشق وفي كلماته وفي ملابسه وعطره ومحادثته ، حيث ينضح كل شيء فيه
بالفتنة والإغراء ، وقد يصل به الى مرحلة الاستجداء ، وهي بلوغ الذروة في الحب ونشوته ،
وقد تمتلىء دواخله بالخوف والصراع الداخلي
، خوفاً من إن يُسرَق هذا الحب ويذهب الى قلب آخر .. وليس للحب أرض أوبقاع يسكنها
، بل أرواح وقلوب يتخلّق بداخلها ويعيش فيها ويحتلّها .. ينفذ نوره الى الأبصار
وينتشر في الروح ، وقد يهبط بالقلب ، وقد يصعد به نحو
السماء .. ( باودعك ودع محباً ودّعك قبل الآوان ،
باودّعك كلّمني مشتاق اسمعك من زمان ، باودعك بشوق للمسه من يدك ، لمسة وداع ،
ماأبخلك ، بكرهك .. لا بعشقك - ياعمري راح ويا الرياح .. ياأمس دافي بعشرتك .. أنا رحلتك .. وأنا السماح .. رغم
الجراح .. حُبي الكبير حيحرسك في سكتك .. الله معك ) لقد أبدع بليغ حمدي في كتابة هذا النص وتلحينه ،
فأشعرني كثيرا بأنه يُخاطب به روح الفنانة وردة .. وحين تَغنّت الراحلة وردة
الجزائرية بهذه الأغنية .. كانت روحها ملأى بالصدق ، مشحونة بالعاطفة والحب والوفاء
.. تُغني روحها أيضا وتناجي روح بليغ حمدي ، تُشعرك بحب تضطرم نيرانه في قاع
أرواحهما .. تتغنى به قلوبهما قبل أصواتهما .. ذلك الحب الحقيقي .. الذي يتوّلد
منه الإبداع الراقي والسمو في ابتكار وصناعة العمل الفني بسحر ودهشة .. ( كتبت
لك غنوه لك تفكّرك بموعدك .. كتبت لك زي الليله دي
في يوم ميلادي غنوه لك ، تفكّرك بموعدك .. واستنيناك أنا
والليالي استنيناك .. بشوق ولهفه لصوت خُطاك .. استنيناك استنيناك ، بخوف يساوي
فرحة لقاك استنيناك ....) أو هل ثمة شيء
يُغيّر اللحظة ويُجمّلها ، وقد تشظّت الأرواح واستعرت الأضلع بالحرائق واللهب ..؟ مُثقلة اللحظة بالمرارة والتعب ، فتنزرع للأرواح
أجنحة فتطير في فضاءات لم تشاهدها ولم تتوقع أن تمرُّ بدروبها ومضايقها .. رائع هو
– بليغ - في كلماته ولحنه ، وصادق هو صوت –
الوردة - العابق بالدمع والشجن .. يُغنيان للحب ولحظاته التي تمر بالأرواح ..
بالعذوبة والقسوة واللقاء والوداع والمرارات والبهجة ، بكل مايعانيه العشاق في
دروبهم ومسالكهم العذبة الشائكة .. القصيدة طويلة ولم نستعرضها كاملة .. وللقارىء
الكريم سماع صوت وردة وأغنية - باودعك - سيشعر حينها بأن العُشاق مُتعبين ومنهزِمين
ومُرّتبكِين دائما .. لم يظفروا بشي من
الأماني ، سوى بعض البعض من حلم يوشك أن ينتهي بسراب أووهم ... ويبقى الحب كما هو لانستطيع تغيير جريان مساره .. قد يأخذنا إلى دروب المتعة واللذة أو أقاصي الجنون ومسالك الاحتراق .
................
·
الكلمات
التي بين قوسين مأخوذة من نص أغنية .. باودعك .. للفنانة الراحلة وردة الجزائرية .