سفر النجوم
سفر النجوم
تَساءلَ
النجعُ بفضولٍ وهبل ، كيفَ لأرضٍ صغيرةٍ أن تنتجَ كلَّ هذا القمحِ، وأراضٍ تجاورها
لم تنتج إلا قليلاً .
أستجيرُ
بالسماء ، من شرِّ ماحسد ..
ربي
، إنني لاأنظرُ لما في يد غيري ، ولاأدعو أحداً سواك ..
أنتَ
القادرُ والمعطي ، أنتَ الملاذُ والارتكان إليك .
كارثةٌ
حينَ تنتحرُ القناعةُ ، ويموت الشكر والحمد ، تحتَ سماء تسامح وتَغفِرُ ولاتعرفُ الخداعَ .
للمرة
الأولى شعرت أنَّ ثَمَّةَ مَن يفرحُ بهزيمتي وكسري ..
أنا
الذي نشأتُ على أرضٍ خشنةٍ وقاسية ، تربَّعـت على عـرش قلبي ، وألبستني النور
والحداد ، وطوّقتني بقبور ، تتشهَّى خطواتي ، ولاتشبعُ أو تملّ.
لن
أنفضَ من يدي غبارها ، ولن أغسلها إلاّ متى رغبت ذلك .
قلقي
يتنامى ويكبرُ ، أورثني غربةً وذعراً ، وخديعةً تآلفت مع روحي ودواخلي .
آه
.. ذهبَ العمرُ وانسرقت أرواحُنا ، وماأمسكنا بشيء حتى انفلتَ منّا ، ولم نحصد سوى
الخيبات المتلاحقة .
عواصف
مثقلة بالخوف ، تفتحُ الشبابيك وتلقي
الذعرَ في قلوب الخائفين .
أغمضُ
عيناي ، وأخفضُ رأسي ، حتى يذهب الضباب .
أمشي
دون توقّف ، ودونَ إلتفاتةٍ خلفي ، طالما ملكتُ القدرة على التحمّل ، ومواجهة
المفاجآت والانزلاقات القاتلة .
رَحِمَ
اللهُ جدّي .. كان لمَّاحاً وذكيا .. على الرغم من كبر سنه ، إلا أنّه يقرأُ بعقله
كلَّ شيء .
كَم
أحتاجُه كثيراً ، بعد أن تصوَّرتُ أشياء ، وظهرت عكس ماتصوَّرتُها وحلمتُ بها ،
وفاجأتني الدنيا بأشياءَ لم أتوقَّعها ، ولم أنتظرها البتة .
مِنَ
الاستحالةِ بناءُ الأرواح وكسبُ ودِّها ومودّتِها ، بالزيفِ والكذبِ ، ونهب عرقها
بالادعاءات والإيهامات الكاذبة .
سينفضحُ
الكذبُ ، وسيهربُ مطأطئاً ، ولن يتركَ خلفه شيئاً ، سوى حطب محترق ورماد.
أَوَ
أكونُ مخطئاً في ماذهبتُ إليه ..؟
كيفَ
ذلك .. والمكرُ يسكبُ غيوثَ زيفِهِ ، والشرُ ينقرُ رؤوس البائسين .
نحن
بشر نصيب ونخطىء .. والأجدرُ أَن يعتذروا من أخطؤوا ، أم لازالوا يصرون بأنهم ليسو
بمخطئين ..؟
كفى
ماسُرِق منّا ، وهل نستطيعُ الحفاظ على مابقي لدينا ، ومنع مصادرتِه ونهبهِ ،
والذهاب به بعيدا .
أَعلمُ
أَنَّ أرضي جرحتني كثيراً ، وعشتُ على ثقة ويقين أنَّ الجراحات والآلام المتواترة
لاتضاهي لحظةَ حبٍّ أّقفُ خلالها أمام وجه (العَنِين) الفاتن ، الذي لايفترُ أو
ينطفىء .
لذلك
أقولُ بصوتٍ واثق :
-
مَن قَتَل عاشقاً غُبناً وقهراً ، كأنما قتلَ العُشّاقَ جميعا ..
فمرارةُ
الحُب وقسوتُه ، حين تموتُ كمداً ، وأنت تقاتلُ لنصرتهِ ، وتأتيكَ بغتةً طعنةٌ
بظهرك ، فتموتُ وحيدا ، دون أن يضمَّك حضنٌ ، أو يدٌ تمتد إليك .
أيها
الحُبُّ ، كيف أطفىءُ لهبي وأشعلك ..؟!
كيف
أبرّرُ غيابي وانشغالي عنك ، وقد وُصِمتَ بأبشع التهم التي لاتليقُ بك ..؟ وقد
أضحت حياتي قرفاً لاتطاق .
صرتُ
أمقتُ مواسمَ البهجةِ ، التي تجرّ الوجع والخيبة ، وتاريخ مثقل بالأكاذيب الماحقة
.
خُنِقت
القناديلُ وانطفأَ ضوءُها ، وطغى الرصاص والموتُ ، بنهمٍ وشراهةٍ فادحة .
تغيب
وجوه وتجيء أخرى ، وقلوبنا تغوص في التذمّر ، وتمتلئُ بالتأسّفِ .. ترتفع الأصوات
عالياً ، فتُخنَقُ في مهدها ، ويبقى صداها يحوم ويغرق في التيهِ ، ودروب الضياع.
مضى
الزمن ، والمكان سيمضي .. وخوفي ألاّنجدُ وقتاً لنبكي على أطلالنا ، وقد يفقد
الوادي منابعَ مائِهِ ، وتُردَمُ الترع والسواقي ، ولايقف مستنكر وينادي :
-
كيف حدث ماحدث ..؟
وهذا
أضعفُ الإيمانِ والتبصُّر ، وبعضٌ مما ينبغي أَن يقال .
زادت
الهُوَّةُ ولم يعد لدى أحد القدرة على ردمها ، تباعدت الأرواح ، والكل أصبحَ
منشغلاً بنفسه ، ولم تعد عائداتُ الأرضِ تُشبِعُ خُواءَ الأنفس الجائعة.
زادَ
سعرُ الديزل ، وصار يصعبُ إيجادُه إلا نادرا ، والأرضُ عطشى ، ومابقي من النخيل
أوشكَ يلفظُ أنفاسَه الأخيرةَ ، وبكى الوردُ حين أحسَّ بدنُوِّ الرحيلِ والسفر .
أحزنني
كثيراً خبرُ زواج أحمد ابن عمّي إبراهيم من أختي تهاني .
نَعَم
، هي الآن في سن الزواج ، وطلبَ الكثيرون يدُها ، وهي ترفضُ وأحيانا ترفض أمي وأبي
معاً .. كثيرون منهم لايتعيَّبون ، في طيبتهم وأخلاقهم . منهم مَن هو بدون عمل ،
ومنهم من يعملُ ، ومنهم المسافر ، ومنهم من
لازال طالباً ، ويتلقَّى مصروفَه اليومي من أبيه ..
مراراً
سمعتُ أمي تقول لأبي ، بعد أَن يتقدّمَ أحدٌ لخطبةِ أختي تهاني ويتم رفضُهُ ..
-
نريدُ من هو أفضلُ منه .
وكل
عريس أفضل من الآخر ، وأمي حريصةٌ على أن يكونَ عريس ابنتها أفضلَ شباب القريةِ .
وأولُ شروطها أن يكون يصوم ويُصلّي ، وعلى خلق حسن ، ولاتنظرُ لما يملك من مال ،
بل لاتسألُ حتى عن عمله .. وأبي يرغبُ في عريسٍ ميسورة أحوالُه المادية ، وألا
يكونَ من خارج عائلتنا الكريمة.
أعلمُ
أنَّ عمّي إبراهيم يحبُّ الخير كثيرا ، وأحمد ابنه ، وتهاني بنت أخيه ، وهي مثل
ابنته .. لكني أعرف أن أحمد لايشبهُ عمّي أبدا .. ولاأدري كيف وافقَ أبي وأمي وكيف
اقتنعت تهاني بأن يكون أحمد عريسها ، وهي التي رفضت شباباً كثراً ، أروع وأجمل
خلقاً وديناً ، من أحمد ابن عمّي إبراهيم .
قلت
لأبي بتوسل ورجاء :
-
كيف قبلتَ بأحمد زوجاً لتهاني ..؟
ردَّ
علي بحدّة :
-
إنَّه رجلٌ .
قلت
بعتب أعلم أَنه رجلٌ .. ولكنَّ الرجال لايستوون .
قال
وقد علت وجهُهُ حمرةً داكنة :
-
هو ابن عمّها ، وأولى بها من الغريب .. واللي تعرفه أحسن من الذي لاتعرفه .
قلتُ
بخوفٍ وضجر :
-
جميع من تقدموا للزواج من تهاني رجالٌ .
ردَّ
بصوت غاضب :
-
لم يبقَ إلا أَن تعلّمَني الخطأَ والصواب .
قلت
له بصوتٍ هامس ، وعبرة تكاد تخنقني :
-
أعتذرُ ياأبي .
وأردفتُ
بوجع وألم :
-
لكَ ماتشاء .
لاحَت
من عينيه نظرةٌ تجاهي ، شعرت فيها بامتعاضِهِ مما قلت ..
تَمتَمتُ
في داخلي :
-
اللهُ وحدَهُ علاَّمُ الغيوب .
تركني
وحيدا ، وغادرني صوبَ غرفته التي تجاور غرفة أمي ، كمن يقول :
-
لن تُقدّمَ أو تؤخرّ كلماتك شيئاً أمره معقودٌ.
لم
ينجح أحمد في العلم ، وفَلَح في طولة اللسان ، وإيهام الجميع ، بأدبِهِ وطيبِ
خُلُقه .
أنا
من أعرفُه ، وأفهمُ سلوكَه جيدا .. وربما يكون قد تقدَّمَ لأُسَرٍ كثيرة ، طلباً
في تزويجه بأحد بناتهم ، ومن المؤكد أنهم رفضوه .. لكن لن يسمع منّي أبي كلاماً
كهذا .. وماأذهلني وصدمني كثيرا .. أنَّ أمي صار رأيُها موافقاً لرأي أبي ..
أمي
التي أضحت لاتطيق عِيشة أبي ، وتمتعضُ كثيرا
من كلماته ، ولاتطيقُ له كلمة واحدة .. بعد أن اعتزل الناس ، وخلد في البيت
منذّ وقتٍ ليس ببعيد .. حتى المسجد الذي يبعدُ بضع خطوات عن بيتنا صار لايذهبُ
إليه .
سمعتُهُ
مرة وهو يحادثُ أحداً عبر هاتفِ البيت ، ويقول بصوت قلق :
-
ليسَ عندي شيءٌ لاأحَد .
ثم
خفض صوته حين شعر بمروري بجواره ..
وقال
بهمس :
-
لن أبرحَ بيتي ..
ثم
صمتَ دقائق ، كمن هو يصغي لصوتِ مُحدِّثِه .
بعد
ذلك ردَّ بغضب :
-
هذا ليس وقته الآن ..
ثم
أغلق سمَّاعةَ الهاتف ، وأطلَّ برأسه من شبَّاك الغرفةِ ، ثم عاد بنظراته ، وهو في
صمتٍ سحيق .
كانت
حينها يدُ الإفكِ ، تقتل مناضلي القريةِ وعظماءَها ، وتدَعُهم في الشوارعِ
والأزقَّة مضرَّجين بدمائهم .. والأمرُّ من ذلك عدم وصول العدالة إليهم ..
وظل
الموتُ يظفرُ كل يوم بضحيَّة ، ويلوذُ هاربا ، دون أَن يلاحقه أحد .
واقع
مخيف ، لاأملكُ خلاله سلاحاً ، سوى الاعتناءِ بالزرعِ والحصاد ، وقلباً يقرع
كالطبل بين ضلوعي ودواخلي .
أبي
لديه سلاحُهُ الآلي ، وجدّي ترك بندقية قديمة ، أجيدُ استخدامَها ، ولم أفكر
في حملها يوما .
لن
أخطوَ في مضايق العنفِ والدروب الخاطئة.
ستقفُ
خطاي في منتصف الطريق .. لن أتقدّمَ ، ولن أستطيع العودةَ .
يباغتني
الموتُ ، والانفجارات الشديدة ، بين وقتٍ وآخر .
يهدأ
الرصاصُ هنا ، ويلعلعُ في مكانٍ آخر ..
ومع
سقوط كُلِّ ضحيةٍ ، تسقطُ دمعةٌ ، وحلمٌ بداخلي يموتُ ويحتضر .
لم
يلقِ عمّـي إبراهيم بالاً بما يحدثُ ، وظلَّ مهتماً بالمسجد ومايحتاجُهُ ..
وظلَّ
سعيد إماماً وخطيباً للمسجد ، وهدأت أصواتُ الممانعة ، ورضخت للأمرِ الواقع .
مافاجأني
وشَلَّ تفكيري .. هو أن جاء عمّي إبراهيم إلى بيتنا ، وجلس مع أبي وحددا موعد
الزواج .
وبدأت
أمي وجدّتي ، وبعضُ النساءِ من جيراننا ، في تهيئة البيتِ للفرح ..
وفي
الجهةِ الأخرى ، لحظتُ عُمّالاً يدهنون بعضَ غرف بيت عمي إبراهيم بالطلاء ..
ولمحتُ البابَ الرئيسي للبيت ، وقد دُهِنَ بلون بُنّي فاتح .. ومُهِّدت الأرضُ
التي تَقعُ تحت البيت ، وتَمَّ رشُّها بالماءِ ، وبدا البيتُ يشعُّ بالنور
والألوان الزاهية .
زُفّت
تهاني لأحمد ، بأناشيد البهجة وزغاريد الفرح ، ورصاص يشقّ سكونَ الليل وهدوءه ،
ويوقظُ النائمين .
وفي
عينَي أمي دمعٌ ودعاء ، ووجهُ أبي يشعُّ زهواً وانبهاراً .
أُغلق
بابُهما ، ولستُ أدري كيف ستخوض المعركةَ المستحبّة .
هو
لم يلتقِها أو يحادثها ذاتَ يوم .. وهي لا تغادرُ حياءها ، وتعيش في بيت يتسّعُ
ويضيق.
ترى
كيف هو قلبها الآن ..؟
لأول
مرةٍ أرى البيتَ كئيباً ، وأحسستُ بالوحشة ، فأجهشتُ بالبكاء .
تنفتح
في القلب نوافذُ الكون هامسة :
-
أَوَلازلتَ تعشقُ الصبرَ والانتظار ..؟
ارتجف
جسدي هامساً :
-
تعبتُ كثيييييرا .
ولازلتُ
أُولدُ مع كلِّ بذرة غرستُها في الأرض ونبتت وأينعت .
مع
كل سنبلة قمحٍ انحنت للأرض ، وحملت قمحاً كثيراً .
يجيئُني
العمُّ خميس ، بوجهٍ مقطب .. قائلاً بمرارةٍ وقلق :
-
لَم أرَ زمنا كهذا .
وأردف
بامتعاضٍ وخوف :
-
نركضُ خلفَ وَهمٍ وسراب ، تنعدم فيه الرؤية تماما .
البردُ
قارسٌ ، والأرضُ لم تعد تفي بحوائجنا والتزاماتنا المتزايدة .
ثم
أردفَ مؤكدا ..
-
هذهِ الأرضُ سيجوع أهلُها ..
حتى
الكلاب صارت تتشاجر بعضُها مع بعض ، لاقتسامِ عظمةٍ ، أوجيفة لم يبقَ منها إلا
عظام يابسة .
أسمعُ
كلماته وكأنها طبلٌ يقرعُ في أذني ..
هو
لم يبع شيئا منذ الصباح ، ولم يعد أحدٌ
يشتري القصب والبرسيم كعهد سابق ..
ذهبَ
الأمانُ ، وهربَ من يشتري منتوجَ الأرضِ من قمح وشعير وأعلاف ومحاصيل كثيرة .
كلَّ
الدروبِ مغلقةٌ ، ولاتنفتحُ إلا للسُرّاقِ ، ورجالات الموت والقتلة .
ماعليش
ياعم خميس ..
-
الصبرُ طيب .
رد
بوجه فاتر :
-
ماتت أرواحُنا قبل أن تجفَّ وتموتَ أرضُنا .
قلت
بذهول طافح :
هل
يُعقل أن يكونَ هذا هو العمَّ خميس ، الذي كان لايخفتُ صوتُه ، ولاتغادرُ الضحكةُ
شفتيه .
الأقوى
جسماً ، والأذكى عقلا ، والشهير بين مزارعي قريتنا .. انحنى ظهرهُ ، وخَفتَ صوتُهُ
وأناشيده التي يغنّيها أثناءَ مواسمِ الحصاد ، بفرحٍ ونشوة ، تحت أشعة شمسٍ مضيئة
..
أكلَ
الدهرُ عمرَهُ ، وأنهكَ العملُ جسدَهُ ، وظلَّ رجلا عالي الخلق ، سمح المعشر ،
ومحبباً بين كل الناس .
يعارك
الأرض وحيداً ، بعد أن أمسكَ ابنهُ سعيد بإمامة المسجد ، وحلقات الدرس التي يجمع
فيها صغار القرية كل مساء ..
انشغل
بالمسجد وشؤونه ..
يغادره
بعد صلاة الفجر ، وقد ارتفعت الشمسُ في السماء ..
يقضي
حوائجَ بيتهم ، ثم يعودُ للمسجد قبلَ الظهر ، ولايغادره إلا بعد أن يغلقَ
الشبابيكَ والأبواب ، ويتأكد أنَّ حنفيات الماءِ أُغلِقت جيدا .
صرتُ
ألتقيه في المسجد كل يوم .. وقد نقف أحيانا بعد الصلوات ، نحاكي بعضا ، ونذهب
بقلوب تنضحُ صدقا ووفاء ..
وتمرُّ
عقاربُ العمرِ بخفِّة وتسارع ، ولاشيء يؤخرها أو يعيدها إلى الوراء ..
وحده
من يولجُ الليلَ في النهار ، ويولجُ النهارَ في الليل ، وهو عليم بذات الصدور ..
وأرواحُنا
تنامُ في سرر الأمل والحلم ، وقلوبنا تعانقُ الريحَ وأهداب الفضاء ..
أيها
القلب أين أنت من كل هذا ..؟!
أَوَ
لازلتَ متناغماً مع الماء وخرير السواقي ، ولاتزال الشمسُ تُقبّل وجهَك كل صباح
ندي.؟
كيف
تحيا ..
أولاتزال
كما كنتَ ، روحاً محمولةً على جناح النور ، مرتحلا بين الشوق وسُهدِه ، وبين مرارة
الشغف والظمأ ..؟
كل
الفضاءات ضيقة ، دون حضنٍ يتَّسع بك ولايضيق .. وليست كُلُّ الرهانات خاسرة ..
وبوسعك أن تدفعَ بالحب للأمام .. ويمكن لك أن تمسكَ به ، أوتدعه يهربُ بعيدا .
كل
شيء بقدر .. وهذه أقدارنا .. لم نصنعها ولانملك مردها أو تغييرها .. ولابد أن نعيش
اللحظةَ كما جاءت ، ولانعترض أو نمتعض .. ونسأل الحيَّ الذي لايموت ، الأمانَ
والعافيةَ ، وأعيننا مثقلة بالسهد ،
وأرواحنا ترقب الخلاصَ ، وقد دنت في الأفق خيوط المغيب .
اليوم
لايشبهُ الأمس . ومن مات من الاستحالة أن يعودَ .. وبيت هنا يزغردُ ويفرح ، وآخر
يبكي ويشتدُّ بكاء .
يقف
عمّي إبراهيم مُوشَّحاً بعباءةِ الصبح . يدعو بصوت هادئ وعجيب :
-
يهل الله .. يهل الدار ..
فزعتُ
عند سماعي صوتَهُ المباغت .. فهبطتُ السلم ، ولم أدرِ كيف بلغت بي خطاي ، حتى
وجدتُني أفتحُ له الباب .
وقف
للتو وجهه بوجهي ..
رأيت
في عينيه تعباً ، وساعات نوم لم تكتمل.
بادرني
بصوتٍ متسائل :
-
أو لايزال أبوك نائماً ..؟
أجبته
بتوجّس :
-
لاأظن ذلك ، فقد سمعتُ صوتَهُ قبل أن تجيء .
ولم
أكد أكملُ كلماتي ، حتى سمعتُ أبي يدعو عمّي للدخول إليه ..
جلسا
في ضيقة البيت متقابلين .
شعرت
وكأن عمّي إبراهيم سيقول شيئا ، ولايرغب أن يسمعهما أحد .
صعدتُ
إلى أعلى البيت ، واندسستُ في غرفتي ، متلحفاً بغطاءٍ أكثر دفئا ونعومة ..
البرد
ينخر مفاصلَ جسدي ، ورأسي يضجُّ بالتساؤلات القلقة .
أرسل
نظراتي تجاه نافذتَي غرفتي ..
وقد
بدأت تخترقهما خيوطُ ضوءٍ لاتزال باردة .
شتاء
قارس ، وبرد جاف ، لم أشهد مثله .. تجمَّدت المياهُ في البيوت والسواقي ..
واخشوشنت الأجسام والوجوه ، ولم تحتمل جلودُنا تكاثف البرد ، واكتنفَ حياتَنا
المللُ والضجر .
اجتمع
الفقرُ والبؤس ، ونَقَر البيوت العوزُ ، ولم تكشف الناسُ بؤسَها وجوعَها وقليلٌ هي المنازلُ الميسورة حالُها ، وأغلب
النجع يتساوون في الجوع ، ويطعمون بعضا وقت الاكتفاء.
رغم
كل شيء ، لم يكنز بيت طعاماً .. دون أن يطعمَ البيوتَ المجاورة ..
في
خضم تساؤلاتي وقلقي ، مما يحدث فينا وحولنا .
إذ
صعقتُ عند سماعي صوت أمّي ، قائلةً بعمق وتأثر :
-
كيف يرضى أَن يزوّجهَا من رجلٍ لايعرفُ عنه أيَّ شيء ..؟
ضحكَ
أبي وتنهَّدَ بارتياح ، وقال كمن هو غير مبال :
-
هذا الأمرُ لايعنيني شيئا .
قالت
أمي بخوفٍ دافق :
-
الأجدر بك أَن تنصَحَهُ .
رد
بغضب وتساؤل :
-
أنَصَحه ..!
ثم
صمت برهةً ، وحملق بقوة في وجه أمي ..
وقال
بصوت غاضبٍ منذر :
-
هذا شأنُه ..
وحذاري
أن تتفوهي بشيء كهذا ، أمام الأخرين .
قالت
أمي بصوت منقبض :
-
لايصحُّ أمر كهذا ..
جزعت
روحي واضطربت دواخلي ..
صحيحٌ
أنني لَم أفهم ، ولم أتبيَّن ماسمعتُ ..
فنفضتُ
لحافي ، وغادرتُ سريري ، وقلتُ لأبي مستوضحا عن الخبر الذي وصلني بغتة ..
رد
بصوت لامبالٍ :
-
تقدّمَ عريسٌ لهدى …
قاطعتهُ
وخنقة تملؤني ..
-
لا ..
رد
أبي بتساؤلٍ ممض :
وماذا
يعنيك أمرٌ كهذا ..؟
قلت
بقلق وحنق :
-
بل يعنيني كثيرا .
قال
أبي ، كمن يستوضح شيئا :
-
ماذا قلت ..؟
فقلت
مؤكداً كلامي :
-
بل يعنيني ..
-
يعنيني كثيرا ..
وقَفَ
أبي ممتلئاً غضبا ثم قال :
-
أَنتَ لستَ وليَّ أمرِها .
ثم
صَفَقَ البابَ بعصبية وتركنا ، وغاب في صمته وعزلته ..
وروحي
تموت كل يوم ، وتُقتل بأساليب وطرقٍ عدة .
السحر
والجمال والفتاة الرائعة ..
تُسلب
من بين يدَيّ ، وأنا أقفُ بخضوع وصمت .
كيف
يحدثُ أمرٌ كهذا ..؟!
يجب
أن أحزمَ وأتدبَّرَ أمري ..
فالوقتُ
يزحفُ ، ويسرق روحي .. وقلبي يعيش موته والعذاب .
أَوَهَل
يخجلُ العشّاقُ من حُبّهم . وأرواحهم تتلظى على جمر التشهِّي .. وحرائق السهد
والاشتياق ..؟
أريد
أن أصرخَ بملءِ صوتي ، وأشقَّ جدران الصمت البائسة ..
-
كفى ..
تعبتُ
، ولاأرغب أن أموت وحيدا .. وعيناي تتأملان موتي ، ونهايتي التي أرادها لي أبي ..
وحيد في غرفة باردة ، تملؤني توتراً وسأماً وتمنحني الصبر والتروي ، وتهيَّئُني
للنوم برفقة فتاة ، لاتدرك مايدور حولها ويعتمل .
مصيري
معلقٌ بكلمة واحدة .. تضعُني على سكَّةِ الحياة ، أو ربما تقودني نحو الهلاك ،
بمزاجٍ تعسٍ وكئيب .
كان
المطرُ والثلجُ ، يضرب الأبوابَ والنوافذَ ، وعواصف تحمل صقيعا وبردا ، وفي الأفق
غيومٌ تلوِّنُ وجهَ السماء ، وفي داخلي ينبضُ قلب ، يمتلئ وجعاً وألما .. ليس سوى
نفسٍ ، ونبضة قلب ، تباعد بيني وبيت عمّي إبراهيم ..
خطوة
أوخطوتان وأحادث وأنظرُ وجهَ من أحبّ ..!
أو
سأنتصر أم أغادر منهزماً ، أجرُّ الخيبةَ ، وجرح لايبرأ أو ينطفيء ..
لم
تعد لدي رغبةٌ بأي شيء ، سوى ماأصبو وأتطلَّعُ إليه .
فداحةُ
الوجع جعلت أمي ، تسألني بدهشة :
-
سالم .. أَوَ تشعر بشيء ..؟
وأردفت
بتوجس ، بعد أن رمقتني بنظرة ثاقبة :
-
أها ..
من
يوم أَن علمتَ بخطبةِ هدى ، بدأت أمورك تتغيَّر ، وصرتَ في حالةٍ غريبة ، لم
أعهدها فيك أبدا ..
-
أَوَتحبُّها ..؟
صمتُّ
وفي عينيَّ دمعٌ لايكف ..
أطرقت
مليا في عيني ..
ثم
قالت :
-
كيف لم أشعر بشيء كهذا ..؟
-
ياااااه ..
-
واللهِ كبرتَ ياسلُّوم ..
-
ولكن ..
تعلم
أن أباك لايطيق ذِكرَ هدى ..
اشتعلت
للتو في داخلي حرائق يصعب إطفاؤها ، ورحتُ أبحث عن كلماتي الضائعة ، وسيل من
الكآبة تكتنفني ..
قالت
أمي ، وهي تبحث عن مخرج بأقل خسائر :
-
لابد من مهادنة أبيك ، وكسب ودِّهِ .
تزايدت
حيرتي وقلقي ..
لاأريد
أن أحادث أبي ..
أعلم
أننا لن نتفق ولن نصل إلى نتيجة مرضية.
سيغضبُ
، بل لن يصغي إلى كلماتي .. وأمي المتعاطفة في سريرتها معي ، لن تستطيع أن تقدِّمَ
أو تؤخّر شيئا . انقضت شهور عدة ، لم أستطع خلالها أن أمسك بحلمي المرتجى..
وانتشر
خَبَرُ خطبةِ هدى ، وصارت تلوكُهُ ألسن نساءِ القرية .
سمعتُهنَّ
مراراً ، وأنا أمرُّ في الحقل ، وهنَّ يتحدَّثنَ عن هدى ، وخطيبُها القادم من أرض
بعيدة .
أصمُّ
أذنيَّ كأني لم أسمع شيئا ، وقد فاض بي مما يصلني من أخبارٍ وأحاديثَ ، تضجُّ
بالتندُّرِ والاستهزاء .
علمتُ
أنه لم يكن من أهل قريتنا ، ولاتربطه أيُّ صلةٍ بأهل قريتي .
بل
جاء من أرضٍ أخرى .
لم
أسأل من أين أتى ..
كل
ماعلمتُه أنه جاء ليعملَ في العيادة البيطرية الخاصة بالقرية .
لمحتُهُ
ذات يوم تحت بيت العم خميس ، وهو يحادث سعيداً ..
لم
أسمع من حديثهما شيئا ..
فقد
طغى صوتُ حمارِ العم خميس على صوتهما ، وبدأ كمن يريد التخلص من الحبل المربوط في
عنقه ..
عرفتُ
من وجهه تقدُّمَهُ في العمر ..
بل
ربما يكون تخطَّى الخمسين عاماً .. لم أشاهده قبل هذا اليوم ..
عرفتُه
فقط ، حين رأيتُه جالساً على الأرض ، وجواره سعيد ابن العم خميس ، وهما ممسكان
بشاةٍ بيضاء ..
-
حدسي يخبرني أنه هو ..!
-
نعم ..
هو
ذلك البيطريُّ الذي يعالج مواشي وأغنامَ القرية .
كنت
ناويا الذهاب نحو سعيد ، وفجأة شعرتُ وكأن الأرض تمسك قدميَّ ، وعاصفة تدفعني
للخلف وتغلقُ طريقي .
لم
يلحظاني ، وكانا منشغلين بالشاةِ المريضة ، وهي تحاول أن تفلت من بين يديهما ..
أدرتُ حينها ظهري ، وسلكتُ وجهة أخرى ، ولم أشعرهما بوجودي ..
تمدَّدتُ
تحتَ ظلِّ نخلةٍ ، وعيني ترنو نحو السماء ، وروحي تهمسُ بصوتٍ كظيم :
-
إنهم يسرقون الحبَّ ، ويقطفون الوردَ وعطره.
يُغيِّرون
مجرى الترع والسواقي .
يخنقون
الشمس ونورها الوضيء .
هكذا
أرادوا وكذا يفعلون ..
لن
أصمت ، ولن أظلَّ واقفا ..
سأفتح
دروباً لم تنفتح ، وحياة لاتزال دروبها مغلقة .
(العنين) أرضٌ جميلةٌ
ورائعة ..
ملكنا وحدنا .
فقراء كنا أو أغنياء .
نحن عشَّاقُها وورثتُها
الشرعيون .
موجع أيها الحب ..!
عذبة دروبك وقاتلة مسالكك
.
ترى كم هي أعداد القتلى
الذين تسبَّبت في موتهم ..؟
الآن ..!
وبعد هذا العمر ..
يجب أن أرتَّب وضعي ، وفق
المستجدات والمتغيرات المفاجئة .
ضبابيةُ اللحظة تربكني ،
فأرى الأشياء عكس حقيقتها .. كرسَّام لا يرى الألوانَ كما هي ، فيخلق لوحةً
مشوَّهةَ الملامحِ قاصرة النمو .
كل شيء مبعثرٌ أمامي ،
وأرواحٌ سادرة في سباتها ونومها المخيف ..
وعيونُ الموتِ يَقِظَةٌ
ترفضُ أن تنام ..
كل هذه السنين الضائعة ،
لم أدَّخر شيئا ، سوى العَوَزِ والخوف ، وذاكرة تعيش التضاؤل والاغتيالات المتوالية
.
أكتب قبل أَن يطالني
الموتُ ويختطفني ..
ليس حبّاً في الكتابة ،
بل لأقتصَّ من القتلة ، وعشاق الدم والخراب .
قالت
لي أمي مراراً عدة :
-
صرتَ تذكرُ الموتَ كثيرا ..
قُلت
بزهوٍ وثقةٍ :
-
نعم ..
-
ولاأخافه ..
سعادة
وخلود في حفرة مظلمة ، ومغادرة حياة يلوِّنُها الرجس والأكاذيب القاتلة ..
لستُ
خائفاً ..
ماأخافه
فقط ، هو أنني لم أنجز كُلَّ التفاصيل العالقة بالذاكرة ، ولاتزال الأسئلةُ
المحمومة ، تنهشُ ذاكرتي بقرف وازدراء .
سنون
أتت ورحلت ، والريح تصفر ببؤس ، وتحت أعطافِها الروائحُ النتنة والقذارات
المتلاحقة ، التي علقت بالوجوه والأنفس الصابرة .
والزمن
يتملمَلُ كخيط واه ،، يفتق النور ويرتق الفجيعة ، دون أن يبزغَ قَبَسٌ يرشدنا نحو
طريقنا ودربنا السوي .
ذات
يوم بعيد ..
كان
يحدِّثُني أبي بوجع وحزن ، ولم أدرك حينها معاني كلماته تلك إلا متأخراً .
حين
قال بأَلَمٍ مفرط :
-
لقد سُرِقَت أرضُنا وفَقَدنا العزة والكرامة .
وأردف
بتوجّع :
-
نحن نعيش على تراب أرض ، تملؤنا غربة ، وتقتل أرواحنا بالفقد والوحشة ، ويسرق
النور من أعيننا ، ونحن محمولون على جراح كسرنا التي لم تبرأ ولم تجف .
أذكر
أيضا حين قال لي كلمة لاتزال ترن في طبلتي أذني ولم أنسها ألبتة :
-
أريدُ لكم حياة أفضل .
ولاأريدُ
حياتكم أن تُقهرَ وتختطف ..
أشعرني
أَنَّ اليومَ ليس كالأمس ..!
وشعرتُ
بشيء يتلبَّسُني .."
ذعرٌ
يتملك دواخلي ، ويستقر في عمق الضلوع والقلب .
أتأمل
من شباك غرفتي المطل على الأرض والنخيل والبيوت المجاورة ..
تنسكبُ
في الحلق مرارة ، تجعله يتصلَّبُ ويجفُّ.
ولم تعد الذاكرةُ تذكر شيئاً سوى الموت
والجراحات القديمة ، وحاضر يعيش التخوف والقلق المميت ..!
لست
أدري ..!
-
أهو قَدَرُ العاشق ، أم قدرُ الكاتبِ الذي فقد قلمَهُ ، في غياهبِ الموت ، والحرية
الغائبة.؟
رائحة
الطين المبتل ، وعبق الأشجار المحملة بالزهر والندى ، تبلغ أقاصي أنفي ، تصحبها
رطوبة ونسمات باردة .
أغلقتُ
نافذتي ، وجلستُ على حافة السرير .
ليس
هناك مايقلقُ سكوني سوى تكتكة عقارب الساعةِ الجدارية .
تخطو
بثقةٍ وثبات ، وتستوي على أبدية عرشِها المنغلق بلوح زجاجيٍّ أشف.
نظرتُ
حولي بتيقُّنٍ وإصغاء .. فوقفَ طيفُ هدى أمامي ..
وجهٌ
شاحب ، وعينان يمتلآن سحراً وأسى ..
ياالللله
.. إنها تقفُ أمامي ، وتحومُ حولي كفراشةٍ هاربة .. وينفذُ صوتُها من جميع زوايا
غرفتي البائسة .
فتحتُ
الباب وغادرتُ غرفتي ، بخطى تمتلئ خوفا وارتباكا ..
في
نهاية الرواق المطلِّ على غرف البيت ، لمحتُ أبي قادماً نحوي .. فأبطأتُ في خطوي ،
فوقف يخاطبُني بفرح وانتشاء ..
-
لقد جاءتنا أختك تهاني ..
قلت
بدهشة :
-
متى ..؟
رد
وهو يهم بمغادرتي :
-
قبلَ قليلٍ من الوقت .
ذهبتُ
للتو نحو غرفة أمي فوجدتُ تهاني جالسة وحولها أمّي وجدّتي مزنة .. بينما لم أجد
أبي بينهما ..
من
المؤكد أَنَّهُ ذهبَ إلى غرفتِه وغابَ في هدوئه وصمته .
ماإن
رأتني تهاني حتى وقَفت ، وصافحتني ووضعت قبلة على رأسي .. .. هي عادةٌ عندنا .. أن
تقِّبلَ الأختُ رأسَ أخيها الذي يكبرُها في العمر ..
جلسنا
على الأرض ، ورحتُ أسألها عن أخبارها ، وأحوالها ، وكيف تعيش حياتها .. أهي سعيدة
أم لا .. وكيف هو أحمد معها .. الذي لم أشاهده منذ وقت ، وهو الذي لم يعد يأتي إلى
الحقل ، بعد حياتهِ الجديدةِ ، إلا نادرا .
كثيرٌ
من التساؤلات رحتُ أسألها ..
وقَطَعت
أمي تساؤلاتي وهي تضحكُ بشدةٍ ..
-
دَع أختك تشمُّ أنفاسها ..
وأردفَت
بهدوء :
-
اطمئن ..
ستتغدَّى
اليوم معنا ، وستذهبُ في المساء إلى بيتِ عمِّكَ إبراهيم ..
قلتُ
بعجلةٍ :
-
أَوَ لَم يجيء أحمد برفقتِك ..؟
ردَّت
بصوتٍ خَجِلٍ :
-
لا ..
وأضافَت
مستدركة :
-
لقد ذَهبَ إلى العيادة البيطرية ، ليجلبُ دواء لناقةِ عمّي التي لم تعُد تدرُّ
باللبن ، ولم تتناول العلف والبرسيم منذ أيام ..
وقد
قال عمّي إبراهيم لأحمد بتخوّف ..
-
ثَمَّةَ مرضٌ منتشر في الأغنام والإبل وبعض مواشي القرية ..
وأوصاهُ
أن يذهب إلى العيادةِ البيطرية ، ليجلب لها الدواء ..
بقدر
سعادتي بوجود تهاني بيننا .. فقد بَدَت الأشواق تحرقُ الروح .. وتُفقِدُني هدوئي
واتِّزاني ..
أقولُ
في داخلي ..
-
توقَّف .. سينفضحُ أمرُكَ ..
وإن
عَلِمَ أبوك بشيء .. فسيغضب للتو ، وربما يسخرُ مِنكَ .. وستكونُ صغيراً حينها
أمام الجميع .
وقبل
أن أَدع تساؤلات الروح الوالهة ..
إذ
سَمِعتُ أمي تقول لتهاني بصوتٍ هامس ..
-
وجهُكِ لم يعجبني ..
وقالت
جدّتي مزنة المنسدحة عَلَى فراشها ، موجهة كلامها لأمي بصوتٍ متهكمٍ :
-
أولَم تعرفي مابها ..؟
نظرت
أمي في وجهِ تهاني بإمعانٍ وتفحُّص ..
وقالت
وهي تبتسمُ :
-
أها .. عرفتُ الآن مابكِ ..!
وأردفَت
بفرح :
لم
أدرِ كيفَ فاتني أمرٌ كهذا .
ألقت
تهاني رأسَها نحو الأرض خَجَلاً وحياء.
قَالت
لها أمي بسعادةٍ غامرة :
-
لاتكثري مِنَ العمل .
خرجَت
تهاني عن صمتِها قائلة :
-
لاتسمحُ خالتي سماحُ لي بالعمل في البيت ، وصارت تهتمُّ بي كثيراً .
فَرِحنا
بمجيء تهاني المفاجىء ، وكلٌّ يودُّ الجلوسَ بقربها ومحادثتها ..
وسعدتُ
أكثر حينَ ذهبت أمي نحو المطبخ ، وسَمِعتُ شخيرَ جدّتي ينخفضُ ويعلو ..
نظرتُ
إليها فلحظتُها نائمة ، كمن لَم يَنَم منذ وقتٍ بعيد .
اقتربتُ
من تهاني ، بقلبٍ مضطرب ، ولسان مثقل بالكلام ..
نظرت
نحوي قائلة ..
-
سَلُّوم ..
أَتودّ
قولَ شيء ..؟
قُلتُ
لها ، وقد شعرتُ بلساني ينفكُّ قليلاً :
-
كُنتُ سأسألُكِ عن هدى وأخبارِها ..
تَبسَّمت
وهي ترسلُ نظراتِها نحوي ، ثم قالت :
-
آهاااا ..
-
اطمئن هِيَ بخير ..
-
ولكن ..
-
ولكن ماذا ..؟
مكتئبةٌ
ومتعبةٌ كثيراً .
أنتَ
تعلمُ مايتحدَّثُ به الناسُ عنها ، وهي بنت .. والبنتُ لاتملكُ شيئا سوى شَرَفها
..
قلتُ
بقَلق وتوجُّس :
-
أَوَحدثَ شيءٌ لم أعلَمهُ .
-
لا لَم يحدث شيء ..
فقط
صارت لاتخرجُ من البيت إلا نادرا ، وكنتُ أصطحبُها معي عند ذهابنا لأيِّ عُرس ،
وتتردَّدُ وتمانعُ دائماً ، وروحُها لاترغبُ في الخروج ..
وقد
قالت لي ذاتَ مَساء :
-
لاأُحبُّ حفلاتٍ كهذه ..
شَعرتُ
وكأنها لاتحبُّ التجمعات النسائية ..
تخوّفاً
من أَن تسمعَ كلمة تسيئها ، أو نظرة تنظرها بشزر .. بل يتهيَّأُ لها .. أَنَّ كلَّ
مَن هُم حولها يتحدثون عنها بسوءٍ وافتراء ..
آهااا
.. لقد لحظتُ هذا ..
منذُ
وقتٍ لم تَجيء الحقل ، ولم أعد أراها مثلَ كلِّ صباحٍ وهي تكنس الأتربة والرمل
المنسكب أمام مدخل بيتهم .
صمتَت
تهاني فجأة وراحت تتشمّم شيئا .. اندهشتُ كثيرا ..
لماذا
تفعلُ هذا ..؟
وفاجأتني
قائلة :
-
ثَمَّةَ رائحةُ سجائرَ في البيت ..
فقُلتُ
لها بصَمتٍ :
أَوَ
لَم تعلمي ..؟
ردَّت
بفضولٍ ودهشة :
-
أعلمُ ماذا ..؟
إنَّها
رائحةُ سجائرِ أبي ..
ردَّت
بتعجُّبٍ :
-
هو لايُدخّنُ ..!
-
بلى صار يدخّنُ ، ويشربُ سجائرَ كثيرة .
في
خضمِّ عزلتِهِ وصَمتِه ، أصبح يرسلُني ، لأشتريَ له السجائرَ ..
أحيانا
أشتري له علبة واحدة ، وأحيانا علبتين أو ثلاث علب .
سمعتُ
من أمّي أنَّهُ توقَّفَ عن التدخين منذ سنين طوال .
وعاد
الآن يدخِّنُ بشراهة بعد أَن صار لايغادر البيت مطلقا ..
كنتُ
أُحضِرُ له سجائرَ كُتِبَ اسمها على غلافها الخارجي .. ردفان .. radfan وذات يوم لم أجد النوع الذي هو يشربه ، ووجدتُ
نوعاً آخر اسمه كمران kamaran فاشتريت له علبة منه ، وماإن وصلتُ ووضعتُها
في يدِه ، حتى اكفهرَّ وجهُهُ وامتلأَ غضبا شديدا ، ورمى بتلك العلبةِ في وجهي
قائلا :
-
أنتَ غبيُّ ..!
وراح
متسائلا بصوت مرتفع :
-
أَلا تعرفُ نوعَ سجائري ..؟!
صَمَتُّ
ودواخلي تمتلئ خوفاً وألماً ، ورحتُ أتحسَّسُ وجنتي وقد تركت العلبةُ بقعةً حمراءَ
داكنة تحت عيني اليمنى .
ولم
أستطع أَن أنبسَ بكلمة ، وقد شعرتُ بتوترِهِ واضطرابهِ المفاجئ ..
ثم
أردف بكلمات سمعتُها منه لأول مرة ، ولم أدرك كُنههَا ومعانيها :
-
كانَ زمنُ البراندي brandy أروعَ وأجمل ، انبنى خلالَه وطنٌ من النور ،
والانجازات العظيمة .
فقلتُ
له بتأَدُّبٍ :
-
ماذا تعني ياأبي ..
استرخى
على وسادتِهِ وقال ساخرا :
-
ستفهَمُ لاحقاً ..
-
أَوَ قالَ أبي كلَّ هذا .. ؟
-
نعم ..
-
هذا ماسمعتُه منه ، ولم أزد أو أُنقص حرفاً .
ضَحِكت
تهاني واغرورقَت عيناها بالدمع ، لِمَا سمعتهُ عن أبي ، وأضحكتني بشدة جراء ضحكها
الطاغي على مافعله أبي ..
أوقف
حديثَنا وضحكاتِنا المتتابعةَ ، صوتُ أبي وهو ينادي بصوتٍ عال
-
تهاني ..!
نَهضت
بسرعةٍ ونظراتُها شاخصةٌ نحوي بقَلَقٍ وتعجُّب ، وبدا لي وكأنَّ هناك شيئاً حدث .
ذهبنا
بخطى حثيثةٍ ، صوبَ غرفةِ أبي .
وَلَجتُ
بخفَّةٍ ، وخلفي تهاني ، وأرواحُنا يملؤها الارتباكُ والتوجَّس ..
ماإن
رآنا حتى قال للتو:
-
لقد قُتِلَ الطبيبُ البيطري ..
شدَّني
اندهاشي وذهولي ، فقلتُ بكلمات مرتبكة :
-
كيف حدَثَ هذا ..؟
ردَّ
قائلا :
-
جاءني الآن اتصالٌ يخبرُني بموتِهِ . ولم نكد نفق من سماعنا هذا الخبر المفجع ،
حتى سمعتُ أحمد ابن عمي ، يدعو من تحت البيت ، لكي نفتح الباب ويصعد إلينا ..
كانت
أمي في الأسفل ، فسرعان مافتحت البابَ له ، وماكاد يصلُ إلينا ، حتى سمعته يتنحنحُ
بصوتٍ خفيض ..
قال
أبي بصوتٍ مبتئس :
-
تفضَّل .
جَلَس
بجانب أبي ، وأنفاسُه تتسارعُ بشدَّةٍ ، وبدت كلماتُه أكثر ارتباكا وتلعثما ..
أحضرت
له تهاني كأساً من الماءِ ، فشربهُ دفعةً واحدة ..
قال
أبي بانذهال وشرود :
-
أَخبِرني عن ماحدث :
فقال
بصوتٍ يمتلئ حزناً وألماً :
-
لقد وجدوه مقتولاً في مكتَبِهِ ..
اندهشنا
جميعنا ، وتملكت أجسادَنا قشعريرةٌ قاتلة ..
قال
أبي بصوتٍ معتلٍّ :
-
وكيف حَدَث هذا .. ؟
رد
أحمد بخوفٍ طافح :
-
لستُ أدري ..
ثم
أردف كمن تذكَّرَ شيئا :
سمعتُ
البعضَ يقول :
قبل
يومين جاء شخصان ، وسألوا عنه أحد شباب القرية ، ثم اختفيا ، ولم يعثر عليهما أحد
.
وحدث
اليوم ماحدث ..
وقد
جئت ، بعد أن رأيتُ سيارةَ الشرطةِ ، تحمل جنوداً وضابطاً ..
دخلوا
العيادة جميعهم ، وبقي أحدهم واقفاً بجانب السيارة ، وبعد حوالي ساعة خرجوا من
العيادة ، وغادروا المكان ..
وظلَّت
الساحةُ الواقعة أمامَ العيادة ، تَضِجُّ بأصوات الناس المتجمهرين .. وكلّ يفسِّرُ
حسب ماسمع ، والبعض يؤوِّلُ ، وقد يضيفُ ويزيدُ ..
وستسمع
غدا أخبارا ، قد يصحُّ بعضها ، وقد يكون بعضُها بعيداً عن الحقيقة ..
قال
أبي بصوتٍ حزين :
-
أوهل أخبرتَ أباك بهذا الخبر ..؟
-
نعم أخبرتُهُ ..
فقد
وجدتُهُ تحتَ البيت ، وانصدمَ كثيراً .. وتركتُه بعد أن اطمأننتُ عليه ، وأيقنتُ
أنه صعدَ إلى أعلى البيت .. ومؤكدا أنه أخبرَ أمي وهدى بهذه الفاجعة .
وقف
أبي يهذي بصوت متعب ومنكسر :
-
متى تنسحبُ غيومُ الموتِ من سمائنا ..؟
فلم
تعُد الحياة حياة ، وأصبحت أرضنُا تُلحِقُ بنا الهزائمَ والخيبات المتلاحقة.
كيف
نستطيعُ أَن نَعبُرَ الضفَّةَ الأخرى ، وأعيننا مثقلةٌ بالدمع وأرواحُنا كئيبةٌ
وكابية ..؟
إنهم
يقتلون كلَّ شيء ، ولم يتركوا لنا شيئاً جميلاً ..
بل
لم يترك القتلةُ لنا فرحاً ، واكتنف الحزن القرية ، وحزنت الترع والسواقي وبكت
الأرضُ والسماءُ .
مسحتُ
من عينيَّ دمعة تكاد تسقط وتبلِّلُ وجهي المكفَهِر ..
خطوت
صوب مقبرة عصيبة ، وحملتُ النعشَ مراراً ، وتعاقبت أيادٍ كثيرةٌ على حملهِ .. وبعد
أن تم الانتهاء من دفنِهِ .. وبدأ الناس
يغادرون المقبرة ..
نظرتُ
للشمس فشعرتُ وكأنها تلاشَت في مغيبها قبل دُنوِّ المغيب .. وشعرتُ وكأنَّ ليل
القريةِ سيسقطُ ولن ينجلي ..
مشيتُ
ومشيتُ ، ولم أستطع المشيَ مثل وقتٍ مضى ..
شعرتُ
برغبةٍ تجتاحني بالبكاء .. جريت بقوةٍ خارقة ، كمن تلبَّستهُ شيءٌ من القوة
والعزيمة .
خوف
وقلق يتملكانني ، لم أستطع أَن أنام ..
رحتُ
أهزُّ بابَ الغرفةِ ، لأتاكَّد من أنه مغلقٌ جيدا ..
تكوَّرتُ
على سريري ، ورأسي منغرسٌ بين ركبتيّ ..
ثَمَّةَ
طرقٌ على بابِ غرفتي ..
-
هُـــدى .. لاتفتحي وأسدلي الستائرَ على البابِ والنوافذ ..
ابتسمت
وقالت بصوتٍ هامس :
-
حَاضِر ..!
ثم
جاءت واندفنت في حضني ..
أخذتنا
حينها إغماضةٌ عذبةٌ وآسرة ، ذهبت بنا بعيدا ، ولم ندرِ بعدها بأي شيء .
.
.
.
العنين
.
رواية
.
خالد
لحمدي