قراءة في رواية
' صمت الأشرعة '
...





الأديب صالح سالم عمير


مقدّمة

.
فرغتُ من قراءة رواية – صمت الأشرعة – تأليف الصديق العزيز رحب الصدر سمح الخلق / خالد لحمدي ، وخالد بلا ريب ينتظر مني أن أقول كلمة في هذه الرواية المُدهشة ، التي جدّ فيها واجتهد كثيرا ، وخالد على حق في ما ينتظره مني ، فالكاتب أي كاتب لا يشعر بالرضا و الراحة والاطمئنان إلا إذا شعر أن الآخر شعر بما أنجز وأبدع وألّف ، و قدّر و احتفى واحتفل بما أنجز و أبدع و ألّف ، و هذا التقدير والاحتفاء والاحتفال من لدن الآخر ما يدفع المُبدع إلى مواصلة العطاء و ينشطه إلى العمل والإنتاج ، و يثري نفسه بالمعاني الجميلة ، و يثير فيه الخواطر الحلوة ، و يشيع في لغته القوّة و الجمال والخلق والابتكار .
وكم هو مؤلم و كم هو موجع أن المبدع في هذه البلاد لا يجد لكتاباته صدى من لدن نقادنا ، فبعض الكتاب و النقاد عندنا كما يرى البعض آثروا السلامة و العافية ، فهم سادرون في تجاهلهم لا يحفلون بالإبداع و لا يلتفتون حيال المبدع ، و قد قرأتُ بالأمس مقالة للروائي الصديق الغربي عمران حَمَلَ على النقاد بشدّة و بقسوة قلّ نظيرها ، بسبب تكاسلهم و تقاعسهم .
على كلٍّ أنا هنا أدوّن بعض الخواطر العابرة التي سنحت لي أثناء قراءة الرواية الشائقة - صمت الأشرعة – لصديقي خالد ، و كالمعتاد أرسل نفسي على سجيتها في الكتابة العفوية التلقائية كقارئ عادي بسيط لا يجيد مصطلحات النقاد و عباراتهم الغامضة ، و لا يستوعب مذاهبهم و مدارسهم الحديثة سواءً الآتية من الشرق أو الغرب .
هذه الرواية – صمت الأشرعة – ( و هي جزء أول في رواية ثلاثية لخالد لحمدي الجزء الثاني ( حنين المراكب ) والثالث ( وهتف البحر ) تعكس كما أتصور هزائم أجيالنا المتلاحقة وتجسّد معاناتنا وأوجاعنا التي لا تريد أن تنتهي ، و التي لا تقبل الشك و لا تحتمل الجدال ، و أيمن بطل هذه الرواية أعتقد أنه يمثل الكثير منا في هذه البلاد التعيسة ، حيث تعترض الأشواك طريقه في مدينته بالوادي ، وادي حضرموت ، ويتعرض للجحود و العقوق والحَيف والغبن و العَسْف و القهر ، فيترك مسقط رأسه مضطرا ، و يرحل إلى المكلا ، المدينة التي أحبها كثيرا ، و هناك تجري أحداث الرواية ، فقد أحب امرأة جميلة يكبرها سنا تعمل معلمة ، الحب الكبير الجارف و قد بادلته الحب الكبير ، إلا أن هذا الحب الروحي لا يكتمل بتلاحمهما الجسدي بسبب – التمايز الطبقي – !!
و يعمل أيمن مُرغما في أعمال لا تتناسب ومؤهلاته و مواهبه ، فهو أديب و شاعر موهوب ، و يعاني و يتوجّع و يتألم ويُهمّش و يسكن في غرفة حقيرة لا تتسع حتى لكتبه و دواوينه و أشعاره ، في مدينة المكلا التي أحبها حتى الثمالة ، و أحب بحرها و هواءها و ناسها و كل شئ فيها ، و كتب في عشقها و غرامها هذه الرواية البديعة التي لا تمل ولو قُرأت عشرات المرات ، ليس لحبكتها وليس لأحداثها المثيرة أو غرابتها أو .. أو .. ، فهي في ظاهرها حكاية عادية تماما ، و لكنها لا تُمل كما أرى كونها أشبه بقصيدة شعر طويلة ، صاغها قلم شاعر عظيم ، تناول بلغة باذخة ، جياشة العواطف ، طويلة النفس ، حب المدينة الجميلة ، و أيضا الحب الكبير الأثير الذي لم يكتمل بالزواج لـ ( شريفة ) التي جُن و أغرم بها أيمن ، وكما يقال – كلّ ممنوع .. مرغوب - !!
تتألف رواية – صمت الأشرعة – للصديق الروائي خالد لحمدي من 7 فصول و هي :
أحزان سفينة صدئة .
-  جراحات باردة .
-  ممرات قلقة .
-  موسيقى القصر الأخرس .
-  مرافئ لبحر مرتبك .
-  رفات حلم ميت .
-  نشيد المرايا .
يكتب المؤلف في الفصل الأول : أحزان سفينة صدئة ، على لسان بطل الرواية أيمن ، ( حيث يتم كل سرد الرواية من أولها لآخرها بضمير المتكلم الأنا ) :
انا والبحر وشريفة والميناء المنسكبة أضواؤه على الأمواج المتكسرة فوق رؤوس الصخور اللامعة ..
أنا هنا وشريفة روحان يسافران في بحر من الحلم والمتعة وحولنا بعض العائلات المنتشرة على الكبس وعلى بعض الأحجار والحشائش القريبة منّا .
تسألني شريفة :
-  أتحبني يا أيمن ؟
-  لم ولن اعشق سواك !!
وتقول له شريفة عندما يخبرها بلغة شاعرية بأنه يحلم بها كل ليلة حتى بزوغ الفجر :
-  هكذا انتم الشعراء !!
وعندما يواصل عبارات الغزل و الهُيام تسأله :
-  أكلّ هذا تراه في ؟
-  بل أكثر من ذلك ، ما أروع كلّ شئ هنا ، انظري انظري هناك !!
-  أين ؟
-  هناك حيث بقايا حطام تلك السفينة الصدئة ، أتشاهدين تلك الدلافين وهي تتقافز ببهاء ونشوة ؟
-  لا لا أرى شيئا .
-  انت مضطربة وقلقة !!
و تحكي له أن : أمها في هذا اليوم النحس الذي ارتطمت فيه هذه السفينة بالصخور البحرية وتحطمت ، ماتت أمها !!
-  اعذريني لقد جئت بك إلى مكان أشْعَلَ آلامك و جروحك الغائرة .
-  تلك السفينة فتحت مدافن الحزن في داخلي !!
*  و دعونا – أحبتي – نتوقف قليلا ، عند هذه العبارة المؤثرة التي جاءت على لسان حبيبة أيمن ..
يكت ب الصديق الباحث : عبدالرحمن بن عقيل ..
ذاكرة بحر " المكلا " لا تحتفظ إلا بالبواخر الغرقى !!
أحسنت يا صديقي الباحث ، و نحن ما زلنا نتذكر كارثة تلوّث مياه بحر المكلا بمادة المازوت المتسرب من الباخرة ( شامبيون 1) قبل فترة ، و مطالبة الجميع السلطة المحلية بالمكلا بعمل كل ما يلزم لإنقاذ بحر المكلا من التلوث البيئي !! وطالت مدة التلوث كثيرا ، الأمر الذي انعكس سلبا على حياة الناس والبحر !!
و نحن ما زلنا نتذكر – أيضا - الشعر الغنائي الذي استوحى دلالاته و رمزيته بعض الشعراء ، من هذه البواخر الغرقى مثل :
حرام القادري مزقول !!
و مثل :
عدّى زمان القادري ، و الصرك !!
وأتصور أن هذه البواخر المحطمة الغرقى على شواطئ بحر العرب ، و الماثلة أمام أعيننا ليل نهار ، و التي شابها الصدأ ( الدحل ) تحكي و تمثل الإسقاط الحي لواقعنا الخائب على كل الأصعدة ، و بالأخص على الصعيد السياسي ، و لعلها تُشكّل لكل المبدعين و الفنانين الرمز المُوحي المُعبّر بشكل فني رائع ، ويمكن استخدامها المرتكز والمادة الفنية الواقعية المنظورة أمام أعينهم ليل نهار ، لأعمال وآثار فنية عديدة و متنوعة ، و قد وُفّق كثيرا ، خالد لحمدي دون شك بتمثيله هذا الرمز – الباخرة المُحطمة الصدئة - في روايته – صمت الأشرعة !!

"  الوادي و المكلا "

معظم صفحات رواية "صمت الأشرعة " للصديق خالد لحمدي بمثابة وصف ما يختلج في وجدان أيمن ( الشخصية المحورية في الرواية ) و على لسانه ، من مشاعر وأحاسيس وولع ووله وحب جارف كبير لشريفة المكلاوية ، من خلال المناجاة الداخلية أو الحديث النفسي الصامت ، ورغم أن الكاتب لا يتدخل ، الا أن القارئ يشعر أن أيمن يروي سيرة و حكاية الكاتب نفسه و هزائمه و خيباته .
ترك – أيمن - وادي حضرموت مضطرا ، وأطلق عليه من خلال إشارة قصيرة مقتضبة ، اسم – وادي القلق – !! ربما لأنه تعرّض في الوادي للكثير من الغبن والحَيف والعَنَت والعَسْف والقهر ، الا أن الراوي لم يشفِ الغليل ، و يوضّح للقارئ من خلال الارتداد أو الاسترجاع والاستذكار ، ماذا حصل له في الوادي بالشرح و بالتفصيل ، حتى يتسربل بهذه النظرة السوداوية التشاؤمية إزاء مسقط رأسه ، فمثل هذه ( اللواحق ) الفنية تسهم دون شك في ( طيّ المسافات ، واختصار الأزمنة وملء الفجوات الحاصلة في العمل الروائي السردي )
يقول أيمن بعد أن تقول له شريفة :
-  ( أوه يا أيمن تعشق بحر المكلا كثيرا )
-  إنه يُشعرني بالأمان ، ويُنسيني اغترابي وخيبتي ، أرى فيه الهروب من هزائمي ، أنسى خلاله انكساراتي وخوفي ، و وادي القلق الذي يلاحق ذاكرتي ، وقد سافرتُ عنه وتركته يحترق بين أيدٍ أكثر زيفا و مراوغة !!
هكذا !!
عبارة غامضة ، بحاجة لشرح و تفصيل وتوضيح !! لا سيما و قد أسرف ( أيمن ) في وصف مشاعر الحب والشوق والهيام والوجد في صفحات الرواية حد الغلو !! فهل سيتطرق الى : ماذا حصل له في الوادي بالتفصيل في الجزئين المُكمِّلين للرواية ؟ ربما
على أن – أيمن - يتحدث قليلا عن الوادي و يُقارن باقتضاب شديد بين الوادي و المكلا في بعض الصفحات فهو يقول :
(  الوادي يترك أبناءه يُغادرونه هربا ، يبحثون عن عمل و لا يجدون ، يتصارع المتسولون و المجانين على بُقع الوادي ، لقد أتيتكِ من أرض بعيدة موحشة !!)
(  جئتكِ من أرض لا تعرف الحب ، و لا تجيد سوى الموت و الرصاص !! )
(  أرض جرداء ، لا تعرف سوى الحرائق و أصوات الرصاص ، و الحماقات المتزايدة !! )
و يقول عن المكلا :
(  أنّ هذه الأرض تَشعر بي كثيرا !! )
و يقول :
(  ها أنذا أقف على شاطئ بحر يَزخر بالطهر و الفضيلة ، بالعفة و الكبرياء !! )
و يحن أحيانا ( إلى خبز أمه ) عندما يشم رائحة الخبز في بيت الجيران و يقول :
(  أهكذا هي المدن بهذا التجمّد و الخشونة و الجفاء ؟!! )
و لكنه سرعان ما يتراجع عن رأيه هذا و موقفه حول جفاء و غدر المدن ، رغم اشتياقه لخبز أمه ، و رغم سكنه في غرفة ضيّقة بائسة حقيرة في شارع ثانٍ بحيّ السلام ، فهو يقول بأنه لا يريد العودة إلى الوادي ، و يريد أن يُدفن في مقابر أهل شريفة حبيبته !!
و لعل هذه المفارقة العجيبة تدلل فيما تدلل ، على أنّ وَجَعَهُ كبير ، و هزيمته مُنكرة في الوادي ..
فهل ثمّة مأساة أكثر وجعا و أسىً من مأساة أيمن ؟!
"  أبرز مواضيع الرواية "
قصة الحب التي جمعت بين ( أيمن ) و ( شريفة ) محور رواية – صمت الأشرعة - للصديق / خالد لحمدي فهي تهاتف أيمن و هو يهاتفها و هو في وحدته و نكبته و كبته العاطفي ، و أحب حديثها و أحبت حديثه فهو شاعر حالم رومانسي يجيد الكلام العذب ، و مال إليها و مالت إليه ، وكانا يختلسان ساعات يلتقيان خلالها على خور المكلا أو الكبس ، و أحبا بعضهما حبا كبيرا عنيفا !!
و يقول لها أيمن ذات يوم :
-  سأذهب إلى أبيك لطلب يدك ..
فتقول له : أعرف أبي سوف يمانع ، يريد رجلا من قبيلته التي يفتخر بها ، و يحكي تاريخها و أمجادها كل يوم !!
-  تغيّر العالم من حولنا وانطفأت كثير من المعتقدات ، و أبوك ما يزال محتفظا بوهمه وخيالاته العقيمة !!
(  محيطنا موبوء بالوصايا ، و العُقد المميتة ، أيّ زمن هذا الذي يقتل الحب فينا ؟ إننا تعساء حقا حين تجمعنا بيوت بعقولٍ مهترئة !! )
(  تنّورتك السوداء هذه لحَظْتها عليك من أول لقاء حدث بيننا ، و ما زالت ملتصقة بك ، و كأنك ولدتِ بها !! )
و قد مات أبوها قبل أن يتعرف عليه أيمن ، رحل و رحل معه كلّ شئ ، كبرياؤه واعتزازه بقبيلته و نسبه ، و نظراته لمن حوله ، و تصنيفه البشر وفق رؤيته ، و تمسّكه بماضٍ ذهب ، و ما زال يعيش بداخله !!
و في الواقع موضوع التمايز الطبقي ، في البلاد العربية ، تناولته الكثير من الأعمال الفنية و الآثار الروائية ، و لعل من أشهرها ثلاثية نجيب محفوظ ( بين القصرين - قصر الشوق - السكرية ) و سنظل نتذكر كمال عبد الجواد ، و الحب العنيف الذي قلب حياته رأسا على عقب ، إذ يخفق قلبه بعنف لفتاة جميلة من أسرة أرستقراطية اسمها عايدة (أخت صديقه حسين شداد وابنة عبد الحميد بك شداد و هو من أكابر القوم في مصر في الثلاثينيات من القرن العشرين ) و كان حب كمال عبد الجواد لعايدة كما نتذكر أشبه بالعبادة ، فكان يراها أحيانا في منزلة الآلهة المعبودة ، مترفعة عن كل ما يأتيه البشر من أفعال ، منزهة عن كل سلوكيات بني آدم ، ثم عندما تتزوج غيره ، تنهار كل ثوابت الحياة في نظره ، و لا يرى للحياة معنى ، و يصبح الحب في نظره مُجرد عذاب رهيب ينسكب قطرة قطرة في جوفه ، مدى عمره !!
هذا بالنسبة لمصير أحد أبطال نجيب محفوظ ، و لكن ما هو يا ترى مصير ( أيمن ) بطل رواية صمت الأشرعة للصديق خالد لحمدي ؟!!
لا نعرف شيئا من خلال الجزء الأول من الثلاثية !!
و لكننا سنعرف بالتأكيد عندما نكمل قراءة الرواية كاملة ، بأجزائها الثلاثة !!
و كما أشرت في مقدّمة الخواطر ، فأن بطل الرواية – أيمن – صاحب القلب العاطفي المرهف ، يصف و يتغنى و يتبتل طوال الرواية و من خلال معظم صفحات الرواية الـ 106 محراب هذا الحب الكبير ، و كانه ينظم قصيدة طويلة بدهشة و روعة الحرف ، و جمال المفردة المتوهجة و عذوبة اللفظ الباذخ ( ربما على حساب عناصر فنية أخرى ، كالزمان والمكان والحدث والحوار ، والاسترجاع المتصل بالشخوص وبالأحداث و ألاعيب التشويق و غير ذلك ) الا أننا لا نشعر بالسأم ، و نستمتع كثيرا بشذا أزهاره و عبير مفردات تقنياته السردية بالغة الرقة و الرومانسية .
وربما نجد مثل هذا الوصف السردي المطوّل ( أو الإنشاء الوصفي الأدبي ) عند بعض الروائيين العرب الكبار ، مثل ( واسيني الأعرج ) لاسيما في روايته ( أنثى السراب ) و هو من أشهر الكُتاب عناية بوصف تفاصيل حكايات الحب ، و العشق العنيف العفيف الخالص من الشوائب والإبتذال .
" مواضيع أخرى "
أود وأتمنى أن يقرأ رواية – صمت الأشرعة – للصديق / خالد لحمدي بعض الأساتذة النقاد – ولستُ منهم قطعا – من منظورهم القرائي ( المنهجي – العلمي ) و أن يتم تناول رواية ( صمت الأشرعة ) من لدنهم درسا و بحثا و نقدا و تمحيصا ، و أن لا تمر الرواية بجانبهم مرور الكرام دون التفاتهم إليها و احتفالهم بها ، و كيلا ينسحب عليهم قول الغربي عمران ..
(  النقد في اليمن مُصاب بكساح ) !!
و كما يقول الغربي :
(  يكفي من نقادنا الأكاديميين أن يتناولوا كتحية لكل إصدار جديد بعض صفحاته .. إن كان العجز يسكنهم يكفي الصفحات الأولى من أي إصدار ليتحدثوا عنه .. )
و قد بادر الصديق أ. اكرم احمد باشكيل و كتب مشكورا مقالة نقدية ( تحدث من خلالها عن بعض العناصر و المكونات الفنية و الموضوعية للرواية ) عنوانها :
المكلا و ( صمت الأشرعة ) قراءة المدينة برؤية سردية حيث يقول :
(  والرواية توثق قرائيا الحالة المكانية بكل علائقها بين الإنسان ( أيمن/ بطل الرواية ) والمكان ( مدينة المكلا ) . ولعل العلامة الواصلة بين ( صمت الأشرعة ) والمدينة بكل أبعادها المكانية في وجود ( البحر ) لماتشير إليه ( الأشرعة ) .
ويقول في موضع آخر :
المكلا ... ( وجراحات باردة ) الجزء الثاني إن الكاتب/ الراوي هنا يسجل شهادته على حال المدينة/ المكلا في لحظة الكتابة ولم يتوقف عند رصد حالة الحي وهو جزء من المدينة فقط ولكن تجاوزه الى حال ساكنيه ( الباحثين عن النسيان والمتاهات البعيدة ) وهو بذات القدر يرصد حالة المهاجرين إليها وتأثيرات وجودهم بها وهي جد مهمة وتعطي بعدا آخر أكثر لتغيرات المدينة/ المكلا فضلا عن حياة حيّه الذي يسكن فيه ، فنراه يرصد بعين فاحصة راوياً عن شريفة / حبيبته وهي من سكان الحي الأصليين قائلا : "  قالت لي شريفة ذات يوم ... لقد أتى كثير من البشر وسكنوا بيننا واحتلوا الأماكن والأبنية وتعمقوا في الجبل ولم يتركوا لنا شيئا من الأرض كي نبني عليها منازل جديدة ، وقد نراهم يوما ينشئون منازل وأبنية حديثة داخل المقابر فلا نجد حينها مساحة ضيقة ندفن فيها أمواتنا الراحلين ."١٠ العلامة الفارقة في هذا الرصد هي مستوى التغير في طبيعة المدينة وماشابها من أخطاء في التخطيط والبناء بعشوائية تصل حدا ليس في شكل ومظهر البناء ولكن في قضم مساحات المدينة/ المكلا ومصالحها العامة مما ولد عند الكاتب/ الراوي نظرة سوداوية بمآلات الحال ومايعيشه اللحظة هذه بقوله : "
...  زمن مهترئ يمر مسرعا وأرض يغيب فيها الجميع في متاهات ومفازات تستدرج نحو هوة لايشعر بها ولايدرك مضايقها المريرة ... فنمر مسرعين بحثا عن قبس يرشدنا الى نهاية تلك المضايق ليخرجنا الى النور دون إصابات وخسائر ) أ. هـ .
و أود أن أضيف أنني في حوار أدبي مع مؤلف العمل الصديق خالد ، قلتُ له : حدثني عن عملك الأخير ( صمت الأشرعة ) ؟
فقال بالحرف : رحلتُ عن القطن منكسرا وأعادوني إليها مُكرها . على شط بحر المكلا ألقيتُ بمتاعبي ، فكانت حضناً وملاذاً أكثر دفئاً . ومابقيَ ستكتشفه روحك ..
و أضاف :
ولاوجه للمقارنة بين الخور ( خور المكلا ) ووادي القلق الذي ظل يلاحقني !!
أما بعد :
أجمل الثناء و أصدقه و التحايا الحارة لصديقنا العزيز / خالد لحمدي ، الذي أمتعنا بأثر أدبي ممتع ورائع ومغاير ، وفي انتظار الجزئين الأخيرين من الرواية ..
و بما أن فن الرواية يعتبر فنا جديدا من الانتاج الأدبي في وادي حضرموت ، هذا الوادي الحضاري الزاخر بموروث علمي تليد و عميق ، فإنه ( وبعد أن تعددت منابر النشر ) يقع على كواهل كل روائيي الوادي من الشباب النهوض بهذا الفن العظيم الذي يخدم تطلعات الإنسان ويعبر عن معاناته ، مستفيدين من مقدرات اللغة العربية وإمكاناتها السردية الواسعة سواء أكانت نابعة من التراث أم من الواقع . و يمكن من خلال هذا الفن (  المُراوغ ) غير المباشر ( الفلسفي أو الرمزي ) يمكن بحرية تامة التصدي لكل القضايا والمسائل ( المسكوت عنها ) في مجتمعنا المحافظ ، الذي لا يريد إلا كل صنوف الفنون و العادات و التقاليد التي تعوّد عليها على مر السنين ، الصالح منها و الطالح ، كما تصدى لبعضها بحرية تامة مؤلف هذه الرواية ( صمت الأشرعة ) !!
و لابد من استفادتنا بداهةً من المُنجز السردي العربي و غير العربي الراهن ، وفي الوقت نفسه محافظتنا على ثقافتنا العربية والإفادة مما يمكن تسميتها تقنيات عربية أصيلة كتوظيف التراث توظيفاً إيجابياً ، والإفادة من الأشكال الحكائية العربية الموروثة ، ومن التخييل العجائبي والصوفي واستغلال الأنماط الدرامية الشعبية .



.........

هامش :
*  عندما أكتب سعيدا مبتهجا عن ( صمت الأشرعة ) فأنا أول الناس دراية بعيوبي و نقصي فيما أكتب ، ولا تعني هذه الكتابة المرتجلة و المتواضعة أيضا أن الرواية برئت من العيوب أو من بعض المآخذ و الهفوات ، و من ملاحظات لغوية و نحوية و أخطاء مطبعية .
* أظهر بعض الأصدقاء رضاهم عن هذه الخواطر العابرة ، و أتقدم بالشكر الجزيل لهم ، و الشكر موصول لأحد الأصدقاء الذي قال لي :
نحن من عشاق الريف و القرية ، فالريف و القرية أكثر نقاء و صفاء و صدقا من المدن الاسمنتية ومبانيها المسلحة بالحديد ، نحن مع سذاجة و وداعة و شهامة أهل الأرياف ، نحن مع الجمال الطبيعي و المزارع الخضراء المترامية الأطراف ، ومع الإنسان الذي لم يفسده التكلف و لم يشوهه الإغراق في التصنع والزيف و المراوغة !!
نحن مع قول المحضار :
كم طفت بقصور وقصور ... ما ودّي إلا عريشي
وقلت له :
هذه هي المفارقة المأساوية في رواية – صمت الأشرعة – و حكاية بطلها حالة خاصة ، فقد ضاق بهذه الحياة التي ذكرتها بسبب الحوادث الطارئة على الأرياف و ما يقترفه البعض على قرانا و مدننا ، و بسبب ما تعرض له شخصيا ( بطل الرواية ) من قهر ، و ربما بسبب أنه لم يجد في حياة الريف ما يلائمه من البيئة المثقفة المتحضرة و ما يحتاج إليه من الكتب .. و غير ذلك !!  على أن الكلمة الأخيرة لصاحب هذا العمل الفني البديع .




المشاركات الشائعة من هذه المدونة