صمت الأشرعة .. رواية تنحاز لأدب البحر

....

الروائي الغربي عمران

رواية الحب والبحر والمدينة .. أو مديح لظلال البحر أحدث إصدارات الأديب الرائع  خالد لحمدي " صمت الأشرعة "  الذي قرأناه شاعرا .. وقاصا.

فمن خلال قراءتي لعمله الجديد لاحظت طغيان البحر على وجدان الشخصية المحورية " أيمن " . وكأني بحنامينة وصالح باعامر يباركان  مولد روائي متمكن .. وقد قدم إليهم لحمدي أوراق اعتماده في العشق الأزلي  لصفحة الزرقة وأفق التخييل الفاصل بين البحر والسماء .

هذه الرواية قصيدة سردية يتلوها الكاتب لأكثر من مائة صفحة في التَغزّل بمحبوبته " شريفة " . مازجا بينها والبحر والمكلا .. حتى يكاد القارئ الا يفرق بينهما .. تتخلل قصيدته السردية حوارات رائعة .. ووصف ثري بلغة ساحرة .. وبوح للنفس يطول أثره .

شريفة الشخصية الحاضرة برمزية المُعلّمة .. والأرملة من سرق البحر زوجها الأول .. أبنه رجل القبيلة . وأيمن المُثقّف مرهف الحس .. العاطل عن العمل .. القادم من بيئة الجبال والوديان البعيدة ليهيم حُبّاً بمدينة " المكلا " وحُبّه لشريفة .. ليدخل القارئ في تساؤل حول عشق أيمن للمدينة ولشريفة وكأنهما كائن واحد . وبذلك أجاد الكاتب في أن يجعل قلبه ساحة لحب مختلف .

أيمن يحمل قلبه بين كفيه يقدمه لشريفه .. المتلفعة بجلابيب السواد على فقد أمها ثم فقد أبيها .. ودوما ما يشعر القارئ بأن الرواي يولي وجهه شطر البحر.. ويعطي اليابسة ظهره . ثم يعود طائفا بنا من حي السلام إلى الديس .. ومن الكورنيش إلى الخور بمقاهيه .. ثم الميناء بعوالمه .. حاملا شريفة في ثنايا أسطره .. صفحة بعد أخرى .. في مشاهد حوارية شيقة .. دون أن يجنح إلى مشاهد حميمية بينه وشريفة .. مكتفيا بالجلوس على حافة الكورنيش .. أو حول طاولة مقهى .. دون لمسة أو قُبلة .. أو خلوة كما هي عادة المحبين . وبذلك خيب أمل القارئ الذي كان ينتظر شيء من العلاقة الحميمة .. وبتلك العلاقة يذكرنا بالحب العذري عند العرب .. وبالمقابل يغوص في أعماق المجتمع وثقافته .. وعلاقاته .. وعاداته .

 شخصيات الرواية لم تتعدد .. وأكتفى الكاتب بـ : شريفة .. ثم الراوي أيمن .. وصديقه مبارك .. وأسماء عابره من شلة الأنس .. إلى زملاء الميناء . ليعوض الكاتب عن قلة الشخصيات بشخصية المكان " المكلا  "  تلك المدينة التي قدمها بروح شذية ..  في حبكات مكثفة .. فلا تشظي حكائي .. ولا صراع متشعب . مركزا بؤرة الضوء السردي على تلك العلاقة بين شريفة وأيمن .. إلا أن تلك العلاقة لم تكتمل .. ولم ترضي شوق القارئ بنهاية الزواج في ظل عقلية الأب الذي يؤمن بالأصل والفصل  .. وثقافة القبيلة .. وتراتبية القيمة بين أفرادها .

الروائي وزع الرواية تقنيا إلى ثلاثة أساليب فنية :

الحوارات المنمنة بين الشخصيات .. وذلك ما جعلها قريبة إلى القارئ .. ثم مساحات البوح الذاتي التي يجيدها أيمن .. حين يناجي حبيبته شريفة .. وبين  حبه للمكلا وهو الغريب عن المدينة .. وخلط حبه لها بحبه للمدينة وعشقه للبحر.. مستعرضا تلك المشاعر ولواعج القلب .. حالما وقد أحتوى حبيبته بين ذراعيه .

ثم الوصف .. الذي يمتلك الكاتب قدرة على وصف عمق المشاعر.. كما هي قدرته في وصف  المكان من مقاهي إلى الأحياء كحي " السلام " .. والكورنيش إلى حركة المجتمع . إلى ذلك اللسان المائي الذي يلج المكلا الخور.. إلى الميناء وذلك البحر باتساعه . هو وصف أعطى الرواية بعد مكانيا فارها . تكاد بعض الجمل أن تتماس مع الشعر والفلسفة .

 وأخيرا استخدام الشعر المقفى في أكثر من موقف .. وبتلك الأساليب يقترب القارئ أكثر من روح أيمن المرهفة .. التي تسعى وتعمل من أجل الحصول على جائزته " شريفة " لكن تلك النهاية الغامضة أربكتني  كقارئ .. ففي الوقت الذي كان والد شريفة يمثل عقبة رئيسية لاقترانهما .. نجد أن العلاقة بينهما بعد موته قد غامت .. فجلسات الكورنيش تنقطع .. ويزداد الأمر أبهام بذلك .. فهل شريفة تستعر من عمل أيمن كحمال في الميناء . أم أن أمرا على القارئ استنتاجه قد حصل ..؟

ثم تلك الصومالية صاحبة بوفيه الميناء ومحاولة تجنيد أيمن للعمل معها.. ولم يتضح نوعية العمل .. إلا أن الكاتب أوحى بأنه قد يكون تهريب خمور أو مخدرات أو سلاح من وإلى السفن القادمة .

وما زاد الخاتمة غموض ظهور ثلاث جثث تطفو قرب الميناء .. ليتجمع الناس حولها دون أن تفصح الرواية لمن تكون..؟ هل الصومالية وزميلها ضمن الجثث .. أم أن لشريفة صلة .. أم هي لعمال .. أو لصوماليين ممن يهربون على قوارب متهالكة من أتون الحرب وقد لفضهم البحر جثثا نافقة ..؟

هكذا أراد الكاتب لروايته أن تنتهي بمفارقة .. فبعد وضوح الأحداث وتلك العلاقات طوال صفحات الرواية تأتي النهاية مفتوحة بغموض قد لا يكون مبرر.

وأمر أخير تلك العناوين الثمانية بداية بعنوان الغلاف " صمت الأشرعة "  عنوان عميق .. يبعث على التأمل .. ثم عناوين الفصول السبعة .. إذ أن كل عنوان تم نحته بوعي وفنية عالية :

عنوان الفصل الأول " أحزان سفينة صدئة "  . ذلك العنوان الذي يشير إلى حطام سفينة قبالة شواطئ المكلا .. ما يذكر شريفة حزنها على والدتها التي توفت بسرطان الثدي على ظهر تلك السفينة . ثم " جراحات باردة " . قمة المفارقة .. صورة شعرية باذخة .. أن تلتقي الجراح والبرود . وعنوان الفصل الثالث " ممرات قلقة "  وهذا العنوان يأتي بصورة جديدة .. ثم " موسيقى القصر الأخرس "  يذكرني ذلك العنوان بقصر السلطان  .. ذا اللون الكلسي الأبيض .. وقد وقف مواجها للبحر تحيطه المباني البيضاء لحي السلام بالمكلا . وعنوان الفصل الخامس " مرافئ لبحر مرتبك "  ليس مرفأ.. بل مرافئ .. ويمكننا تخيل تلك المرافئ التي تطل على بحر العرب .. وكم هي الحروب وعذابات البشر حين تدفعهم للهروب على مراكب الموت .. فرار وسط بحر مرتبك يبتلع ضحايا كثر وتؤد أمال غضة . والفصل ما قبل الأخير " رفات حلم ميت "  ثم عنوان الفصل السابع "  نشيد المرايا "  كل تلك العناوين تتماس مع الشعر.. ويعود ذلك لطبيعة روح الكاتب وذائقته الشعرية .. ولذلك سيلاحظ القارئ تلك اللغة الشعرية ليس على مستوى العناوين بل يفرد أجنحته على متن الرواية .. من صياغة لتلك الجمل القصيرة والمكثفة .. إلى البوح الشعري الرقيق .. إلى الوصف بتراكيب جمله المدهشة ..  هي تحية لإصدار جديد ولكاتب متجدد .. يستحق أن نهمس في أذنه مزيد من التألق أيها الرائع . مزيدا من مديح ظلال البحر .